Farsi    Arabic    English   
        

مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية

الفصل الاول

بأي معنى يمكن التحدث عن الأهمية العالمية للثورة الروسية؟


في الأشهر الأولى التي أعقبت ظفر البروليتاريا بالسلطة السياسية في روسيا (٢٥ أكتوبر – ٧ نوفمبر سنة ١٩١٧) كان ممكنا أن يبدوا أن الفوارق الكبرى بين روسيا المتأخرة والبلدان المتقدمة في أوروبا الغربية ستجعل ثورة البروليتاريا في هذه البلدان الأخيرة غير مشابهة لثورتنا إلاّ قليلا للغاية. أمّا الآن فلدينا خبرة عالمية لا بأس بها تبين بأتم الوضوح أن بعض السمات الأساسية لثورتنا ليست ذات أهمية محلية. وطنية مميزة، روسية فقط، بل ذات أهمية عالمية أيضا. وأني أتحدث هنا عن الأهمية العالمية لا بالمعنى الواسع للكلمة: فليس بعض سمات ثورتنا، بل جميع سماتها الأساسية، وكثير من سماتها الثانوية تتسم بالأهمية العالمية بمعنى تأثير ثورتنا على جميع البلدان. كلا. بل أتحدث بالمعنى الضيق للكلمة، أي أن المقصود بالأهمية العالمية هو القيمة العالمية أو الحتمية التاريخية لتكرار ما يجري عندنا، في النطاق العالمي، وأنه لا بد من الإقرار بهذه الأهمية لبعض السمات الأساسية لثورتنا.

وبالطبع يكون من الخطأ الفادح أن نغالي من هذه الحقيقة، وأن نعممها على أكثر من بعض السمات الأساسية لثورتنا. ويكون من الخطأ كذلك إغفال حقيقة أنه سيحدث، أغلب الظن، بعد انتصار الثورة البروليتارية ولو في بلد واحد من البلدان المتقدمة، انعطاف حاد، بمعنى أن روسيا لن تبقى بعد ذلك بلداً نموذجياً بل سرعان ما تعود من جديد بلداً متأخراً (بالمعنى «السوفييتي» والاشتراكي للكلمة).

ولكن الحال في البرهة التاريخية الراهنة هي أن النموذج الروسي يظهر لجميع البلدان بعض الأشياء، ذات الشأن، من مستقبلها المحتوم والقريب. ولقد أدرك ذلك العمال المتقدمون في جميع البلدان منذ أمد بعيد. أو بالأحرى حزروه بغريزتهم، غريزة الطبقة الثورية، أكثر مما أدركوه إدراكاً. وهذا هو مبعث «الأهمية» العالمية (بالمعنى الضيق للكلمة) للسلطة السوفييتية، وكذلك الأسس النظرية والتكتيك البلشفيين. وهذا ما لم يفهمه الزعماء «الثوريون» للأممية الثانية مثل كاوتسكي في ألمانيا وأوتو باور وفريدريخ آدلر في النمسا الذين أصبحوا، لذلك، رجعيين وحماة لأسوأ أنواع الانتهازية ولنزعة خيانة الاشتراكية. وبالمناسبة نقول أن الكراس المغفل «الثورة العالمية» («Weltreolution») الصادر في فيينا سنة ١٩١٩ (Sozialistische Bücherei, Heft 11; Ignaz Brandt)[١] يظهر بأجلى شكل، كامل سيرة التفكير وكامل دائرة التفكير، أي، بالأحرى، كل مبلغ البلادة والتحذلق والخسة والخيانة لمصالح الطبقة العاملة، ولكن ذلك بمظهر «الدفاع» عن فكرة «الثورة العالمية».

غير أننا نرجئ الاسهاب في تحليل هذا الكراس لوقت آخر. أمّا هنا فنضيف إلى ما قيل ملاحظة واحدة فقط. ففي الأزمنة الغابرة، عندما كان كاوتسكي لا يزال ماركسيا، ولم يصبح بعد مرتدا، تنبأ وهو يتناول المسألة كمؤرخ، إمكانية حدوث حالة تكون فيها ثورة البروليتاريا الروسية قدوة لأوروبا الغربية. كان ذلك في سنة ١٩٠٢ عندما كتب كاوتسكي في جريدة «الإيسكرا» الثورية مقالة «السلافيون والثور». وإليكم ما كتبه في هذه المقالة:

«يمكن القول في الزمن الراهن» (خلافا لسنة ١٨٤٨) «أن السلافيين لم ينخرطوا وحسب في صفوف الشعوب الثورية، بل أن مركز ثقل الأفكار الثورية والممارسة الثورية ينتقل أكثر فأكثر صوب السلافيين. إن مركز الثورة ينتقل من الغرب إلى الشرق. ففي النصف الأول من القرن التاسع عشر كان المركز في فرنسا، وأحيانا في إنجلترا. وفي سنة ١٨٤٨ انضمت ألمانيا أيضا الى صفوف الأمم الثورية… إن القرن الجديد يبدأ بوقائع تبعث بفكرة أننا نواجه انتقال مركز الثورة وبالضبط انتقاله صوب روسيا ان روسيا التي استوعبت من الغرب مثل هذا القدر من المبادرة الثورية قد تكون نقسها الان مصدرا لامداده بالطاقة الثورية وقد تغدو الحركة الثورية الروسية المتصاعدة اقوي وسيلة لاستءصال روح ضيق الافق الهزيلة و التلاعب الرصين في السياسة التي بدات تنتشر صفوفنا ولجعل شعلة تعطشنا للنضال ووفاءنا اللامتناهي لمثلنا العظامي تلتهب بسطوع من جديد مند امد بعيد لم تعد روسيا بالنسبة لاروبا الغربية مجرد معقل للرجعية و الاستبداد و قد اصبح الامر الان علي عكسه تماما اغلب الظن فان اروبا الغربية تتخول مسند للرجعية و الاستبداد في روسيا و لربما ان الثوريين الروس كانو قد تغلبوا علي القيصر من زمان لو لم يضطروا الي ان يناضلوا في الوقت نفسه ضد خليفه الراسمال الاروبي واننا لنامل بانهم سيفلحون هده المرة في التغلب علي هذين العدوين وبان الخلف المقدس الجديد سينهار باسرع مما انهارت سابقاته ولكن مهما كان مال النضال الراهن في روسيا فان دماء و سعادة الشهداء اللذين سيلدهم بعدد يفوق مع الاسف الحد و الحساب لن تدهب هدرا فهي ستغدي اجنة الانقلاب الاجتماعي في ارجاء العالم المتحضر كله و تجعلها تنمو اينع و اسرع كان السلافيون في سنة١٨٤٨ بمتابة صقيع اباد زهور ربيع الشعباما الان فربما كتب لهم يكونوا ذلك الاعصار الذي سيحكم جليد الرجعية و يحمل في طياته للشعوب ربيعا جديدا تملوءه السعادة كارل كاوتسكي السلافيون والثورة مقالة نشرت في الايسكرا الجريدة الاشتراكية الروسية الديمقراطية الثورية سنة ١٩٠٢ العدد ١٨ المؤرخ في ١٠ اذار مارس سنة ١٩٠٢ الا ما اجود ما كتبه كارل كاوتسكي مند ثمانية عشر سنة خلت





[١] المكتبة الاشتراكية، النشرة ١١، اغناتس براند (الناشر)
        

مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية

الفصل الثاني

أحد الشروط الأساسية لنجاح البلاشفة


أغلب الظن، يرى الآن كل امرئ تقريبا أن البلاشفة لم يكن باستطاعتهم الاحتفاظ بالسلطة شهرين ونصف الشهر بله سنتين ونصف السنة لو لم يسد في حزبنا نظام طاعة صارم وحديدي حقاً، ولو لم تؤيده أتم التأييد وأوفاه الطبقة العاملة بمجملها، أي كل ما في تلك الطبقة من عنصر مفكر وشريف ومتفان ومتنفذ وقادر على قيادة الفئات المتأخرة أو إلهامها.

إن ديكتاتورية البروليتاريا هي عبارة عن حرب ضروس تخوضها بمنتهى التفاني الطبقة الجديدة ضد عدو يفوقها بأساً، ضد البرجوازية التي تضاعفت مقاومتها عشرة أضعاف لسبب اسقاطها (وان في بلد واحدة فقط)، والتي لا يكمن بأسها في قوة الرأسمال العالمي، وفي قوة ومتانة الروابط العالمية للبرجوازية وحسب، بل في قوة العادة أيضاً، وفي قوة الإنتاج الصغير. وذلك لأن الانتاج الصغير لا يزال موجوداً، مع الأسف، بمقدار كبير وكبير جدا في العالم، والحال أن الانتاج الصغير يلد الرأسمالية والبرجوازية باستمرار، في كل يوم وفي كل ساعة، وبصورة عفوية وعلى نطاق واسع. ولهذه الأسباب جميعا تغدو ديكتاتورية البروليتاريا ضرورية، والانتصار على البرجوازية مستحيل بدون حرب ضروس مديدة وعنيدة، حرب استماتة، حرب تقتضي رباطة الجأش والانضباط والصلابة والثبات ووحدة الإرادة.

وأكرر القول أن تجربة ديكتاتورية البروليتاريا المظفرة في روسيا قد أظهرت بجلاء لأولئك الذين لا يستطيعون التفكير أو لمن لم يتسن لهم أن يتمعنوا في هذه المسألة، أن المركزية المطلقة وانضباط البروليتاريا الصارم للغاية هما أحد الشروط الأساسية للانتصار على البورجوازية.

وهذا أمر غالبا ما يتطرقون إليه. بيد أنهم نادراً ما يتمعنون في ما يعنيه هذا الأمر. وفي أية ظروف يكون ذلك ممكنا. أولا ينبغي أن ترفق، في الغالب، هتافات التحية الموجهة إلى السلطة السوفياتية وإلى البلاشفة، بتحليل جدي لأسباب ما استطاع البلاشفة بفضله أن يوفروا الانضباط الضروري للبروليتاريا الثورية.

إن البلشفية بوصفها اتجاها للفكر السياسي، وبوصفها حزباً سياسياً، موجودة منذ سنة ١٩٠٣، وتاريخ البلشفية وحده خلال كامل عهد وجودها بإمكانه أن يشرح شرحاً وافياً لماذا استطاعت أن توفر وتدعم في أصعب الظروف الانضباط الحديدي الضروري لانتصار البروليتاريا.

ويتبادر هنا إلى ذهن المرء السؤال التالي: بم يوطد انضباط حزب البروليتاريا الثوري؟ وبم يجري امتحانه؟ وبم يدعم؟ أولاً، بوعي الطليعة البروليتارية ووفائها للثورة وبثباتها ورباطة جأشها وبطولتها وروح التضحية بالذات عندها. وثانيا، ياستطاعتها الترابط والتقارب، وإذا شئتم الاندماج لحد ما، مع أوسع جماهير الكادحين، وفي المقام الأول مع جماهير البروليتاريا، وكذلك مع الجماهير الكادحة غير البروليتارية. وثالثاً، بصواب القيادة السياسية التي تقوم بها هذه الطليعة، وبصحة استراتيجيتها وتكتيكها السياسيين، شرط أن تقتنع أوسع الجماهير الكادحة بهذه الصحة بتجربتها الخاصة. وبدون هذه الشروط لا يمكن تحقيق الانضباط في حزب ثوري كفء حقا ليكون حزب الطبقة المتقدمة المدعوة إلى إسقاط البرجوازية وتحويل المجتمع كله وبدون هذه الشروط تتحول محاولات توفير الانضباط ولا مناص إلى هراء وطنطنة وهذر. ومن جهة أخرى لا يمكن أن تنبثق هذه الشروط فجأة. فهي لا تحصل إلاّ بنتيجة كدح طويل وتجارب شاقة؛ ومما يسهل توفيرها هو النظرية الثورية الصحيحة، التي هي بدورها ليست عقيدة جامدة، ولا تتشكل نهائيا إلاّ بالترابط الوثيق مع نشاط حركة جماهيرية حقاً وثورية حقاً.

فلئن استطاعت البلشفية أن توجد في سنوات ١٩١٨-١٩٢٠، في ظروف شاقة لا نظير لها وان تحقق بنجاح مركزية صارمة البلاد وشدة ظلم القيصرية ينضج بسرعة خاصة، ويستوعب بحرص شديد بصورة موفقة «احدث كلمة» للخبرة السياسية الأمريكية والأوروبية.

يعنيه هذا الأمر. وفي أية ظروف يكون ذلك ممكنا. أولا ينبغي أن ترفق، في الغالب، هتافات التحية الموجهة إلى السلطة السوفياتية وإلى البلاشفة، بتحليل جدي لأسباب ما استطاع البلاشفة بفضله أن يوفروا الانضباط الضروري للبروليتاريا الثورية.

إن البلشفية بوصفها اتجاها للفكر السياسي، وبوصفها حزباً سياسياً، موجودة منذ سنة ١٩٠٣، وتاريخ البلشفية وحده خلال كامل عهد وجودها بإمكانه أن يشرح شرحاً وافياً لماذا استطاعت أن توفر وتدعم في أصعب الظروف الانضباط الحديدي الضروري لانتصار البروليتاريا.



        

مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية

الفصل الثالث

المراحل الرئيسية في تاريخ البلشفية


سنوات إعداد الثورة (١٩٠٣-١٩٠٥). في كل مكان تلوح بوادر إعصار عظيم. جميع الطبقات في حركة وتأهب. صحف المهجر تطرح على صعيد النظري جميع المسائل الأساسية للثورة. ممثلو الطبقات الأساسية الثلاث، التيارات السياسية الثلاثة – التيار البرجوازي الليبرالي والتيار الديموقراطي البرجوازي الصغير (المغطى بيافطتي النزعتين «الاشتراكية-الديموقراطية» و«الاشتراكية-الثورية» ثم التيار البروليتاري الثوري، يستبقون ويهيئون، في غمرة منازلة الآراء البرنامجية والتاكتيكية صراع الطبقات المكشوف القادم. إن جميع المسائل التي دار من أجلها نضال الجماهير المسلح في سنوات ١٩٠٥-١٩٠٧ وفي سنوات ١٩١٧-١٩٢٠ يمكن (بل ويلزم) تتبعها في شكل جنيني في صحف ذلك العهد. وبديهي أنه يوجد بين الاتجاهات الرئيسية الثلاثة ما لا عد له من نزاعات وسطية، انتقالية، نصفية، أي بالأحرى: في تصارع الصحف والأحزاب والكتل والجماعات تتبلور تلك الاتجاهات الفكرية السياسية التي تعتبر اتجاهات طبقية حقاً؛ والطبقات توجد لنفسها الأسلحة الفكرية السياسية المناسبة من أجل المعارك القادمة.

سنوات الثورة (١٩٠٥-١٩٠٧). جميع الطبقات تنبري على المكشوف. وجميع الآراء البرنامجية والتاكتيكية تجرب بمحك عمل الجماهير. والنضال الإضرابي واسع وحاد إلى حد لم يسبق له مثيل في العالم. تحول الاضراب الاقتصادي بالتدريج إلى اضراب سياسي، ثم تحول الاضراب السياسي إلى انتفاضة. التحقق العملي من العلاقات بين البروليتاريا القائدة وبين الفلاحين المقودين المتأرجحين والمتذبذبين. أنبثق الشكل السوفييتي للتنظيم في غمرة التطور العفوي للنضال. ومجادلات ذلك العهد حول أهمية السوفييتات هي باكورة نضال سنوات ١٩١٧-١٩٢٠ العظيم. وتناوب الأشكال البرلمانية وغير البرلمانية والأشكال العلنية وغير العلنية للنضال، وكذلك أشكال الترابط والتفاعل بينها – كل ذلك يتميز بغنى المضمون لحد مدهش. إن كل شهر من هذا العهد يضارع، من حيث استيعاب أسس علم السياسة – من قبل الجماهير والزعماء والطبقات والأحزاب على حد سواء – سنة من التطور «السلمي» و«الدستوري». فلولا «التمرين العام» في سنة ١٩٠٥، لاستحال انتصار ثورة أكتوبر سنة ١٩١٧.

سنوات الرجعية (١٩٠٧-١٩١٠). انتصرت القيصرية. تم تحطيم جميع الأحزاب الثورية والمعارضة. ومحل السياسة حل الانحطاط والتفسخ والانشقاق والتشوش والارتداد والخلاعة. اشتداد الجنوح نحو المثالية الفلسفية، انتشار التصوف بوصفه ثوبا للنزاعات المعادية للثورة. بيد أن الهزيمة الكبيرة بالذات تلقن في الوقت نفسه الأحزاب الثورية والطبقية الثورية بالذات تلقن في الوقت نفسه الأحزاب الثورية والطبقة الثورية درسا واقعيا من أنفع الدروس، دري الديالكتيك التاريخي، دري تفهم النضال السياسي والتضلع بفن خوضه. الصديق وقت الضيق، والجيوش المهزومة تتعلم دائما بهمة واجتهاد.

ولقد اضطرت القيصرية المنتصرة إلى أن تستعجل في هدم بقايا حياة ما قبل البرجوازية، الحياة البطريركية (الأبوية) في روسيا. فيخطو التطور البرجوازي فيها إلى الأمام بسرعة مدهشة. وتنتشر هباء الأوهام غير الطبقية، الأوهام بصدد إمكانية تحاشي الرأسمالية. ويبرز الصراع الطبقي بشكل جديد تماما وبالتالي أكثر وضوحا.

يجب على الأحزاب الثورية أن تكمل تحصيلها. فلقد تعلمت الهجوم، أمّا الآن فيتعين عليها أن تفهم أن من الضروري أن تتمم هذا العلم بعلم كيفية التراجع الصحيح. يتوجب عليها أن تفهم – والطبقة الثورية تتعلم فهم ذلك بتجربتها المرة – إنه يستحيل الانتصاربدون التضلع بالهجوم الصحيح والتراجع الصحيح .ومن بين جميع الاحزاب المعارضة والثورية المنهزمة تراجع البلاشفة باكبر نظام، وبأقل خسارة في" جيش"هم محتفظين بنواته لدرجة اكبر، وباقل انشقاق في صفوفهم (من حيث العمق واستحالة العلاج) وبأقل درجة من وهن العزيمة وبأكبر قدرة على استئناف العمل على أوسع نطاق وبأقصى الصواب والنشاط. ولم يفلح البلاشفة في ذلك إلاّ بسبب أنهم فضحوا دون رحمة وطردوا الثوريين المتشدقين الذين لم يريدوا أن يفهموا أنه لا بد من التراجع، وأنه لا بد من المهارة في التراجع، وأنه يجب إلزاما تعلم العمل العلني في أكثر البرلمانات رجعية وفيما هو الأكثر رجعية بين النقابات والمنظمات التعاونية ومنظمات التأمين وما شاكلها.

سنوات النهوض (١٩١٠-١٩١٤). في البدأ كان النهوض بطيئا للغاية، ومن ثم بعد حوادث لينا في سنة ١٩١٢ أخذ يسير أسرع نوعا ما. وقد تمكن البلاشفة وهم يذللون صعوبات منقطعة النظير، من إزاحة المناشفة الذين كانت البرجوازية كلها بعد سنة ١٩٠٥ قد أدركت على أتم وجه دورهم كعملاء للبرجوازية في حركة العمال، والذين كانت البرجوازية كلها تؤيدهم لهذا السبب بألف وسيلة ووسيلة ضد البلاشفة. بيد أن البلاشفة ما كانوا توصلوا إلى ذلك لو أنهم لم يمارسوا تكتيكاً صحيحا نعني الجمع بين العمل السري وبين الاستفادة إلزاما من «الإمكانيات العلنية». وقد كسب البلاشفة جميع مقاعد مرتبة العمال في الدوما الأشد إغراقا في الرجعية.

الحرب الإمبريالية العالمية الأولى (١٩١٤-١٩١٧). البرلمانية العلنية، مع كون «البرلمان مغرقا في الرجعية تماماًَ تقدم أنفع خدمة لحزب البروليتاريا الثورية أي للبلاشفة. وينفى النواب البلاشفة إلى سيبريا. وتنعكس في صحف المهجر انعكاسا تاماً جميع التلاوين من آراء الاشتراكية-الإمبريالية، والاشتراكية-الشوفينية، والاشتراكية-الوطنية، والأممية المتذبذبة والأممية الراسخة وتيار المسالمة والنفي الثوري لأوهام تيار المسالمة. إن الحمقى المتعلمين والدردبيسات من الأممية الثانية، أولئك الذين كانوا يصعرون خدمة ترفعاً إزاء وفرة «الكتل» في الاشتراكية الروسية وشدة وطيس النضال فيما بينها، لم يستطيعوا، عندما قضت الحرب في جميع البلدان المتقدمة على «العلنية» الممدوحة، أن ينظموا حتى ما يشابه، ولو تقريبيا، ذلك التبادل الحر (غير العلني) للآراء وتلك الصياغة الحرة (غير العلنية) للنظرات الصحيحة، كما نظم ذلك الثوريون الروس في سويسرا وفي جملة من البلدان الأخرى. ولهذا السبب بالذات أصبح الاشتراكيون-الوطنيون السافرون و«الكاوتسكيون» في جميع البلدان أسوأ خونة للبروليتاريا. ولئن استطاعت البلشفية أن تنتصر في سنوات ١٩١٧-١٩٢٠، فإن أحد الأسباب الأساسية لهذا الانتصار هو أن البلشفية كانت حتى منذ أواخر ١٩١٤ تفضح دون رحمة خبث ودناءة وخسة الاشتراكية-الشوفينية و«الكاوتسكية» (التي تتفق واللونغيتية في فرنسا، وآراء زعماء حزب العمال المستقل والفابيين في إنجلنرا، وتوراتي في إيطاليا والخ.)؛ ثم إن الجماهير قد اقتنعت فيما بعد بتجربتها الخاصة أكثر فأكثر بصحة آراء البلاشفة.

الثورة الثانية في روسيا (من فبراير حتى أكتوبر سنة ١٩١٧). إن تقادم وشيخوخة القيصرية لحد فظيع قد أوجدا (بمساعدة ضربات وويلات الحرب المعذبة الطحون) قوة هدامة خارقة موجهة ضد القيصرية. ففي غضون بضعة أيام تحولت روسيا إلى جمهورية برجوازية ديموقراطية، هي في ظروف الحرب أكثر حرية من أي بلد في العالم. وقد أخذ زعماء الأحزاب المعارضة والثورية يشكلون الوزارة، على غرار ما يجري في أشد الجمهوريات «صرامة في البرلمانية»، مع العلم أن لقب زعيم حزب معارض في البرلمان، حتى ولو كان أكثر البرلمانات رجعية، كان يسهل الدور القادم لمثل هذا الزعيم في الثورة.

ففي بضعة أسابيع استوعب المناشفة و«الاشتراكيون-الثوريون» ببراعة جميع طرائق وعادات ومحاججات وسفسطات أبطال الأممية الثانية الأوروبيين، والمستوزرين، والمستوزرين ونظائرهم في الحثالة الانتهازيين. إن كل ما نقرأه الآن عن شيدمان ونوسكه وكاوتسكيوهيلفردينغ، عن رينر وأوسترليتز، وعن أوتو باور وفريتس آدلر، وعن توراتي ولونغه، وعن الفابيين وزعماء حزب العمال المستقل في إنجلترا، إن كل ذلك يبدو لنا (وهو في الواقع كذلك) تكرارا مملا لنغمة قديمة مألوفة. ولقد شاهدنا نحن كل ذلك عند المناشفة. لقد مزج التاريخ، وجعل انتهازيي بلد متأخر يستبقون انتهازيي جملة من البلدان المتقدمة.

فلئن فشل جميع صناديد الأممية الثانية، وأخفقوا في مسألة أهمية ودور السوفياتات والسلطة السوفييتية، لئن افتضح زعماء الأحزاب الثلاثة الهامة للغاية والخارجة الآن من الأممية الثانية (ونعني الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني المستقل وحزب لونغه بفرنسا وحزب العمال الإنجليزي المستقل) فضيحة «باهرة» خصوصا وضلوا في هذه المسألة، ولئن أصبحوا جميعا عبيد أوهام الديموقراطية البرجوازية الصغيرة (تماماً على غرار البرجوازيين الصغار في سنة ١٨٤٨ الذين كانوا يدعون أنفسهم «اشتراكيين-ديموقراطيين»)، فإن كل ذلك قد سبق أن رأيناه في مثال المناشفة. لقد مزج التاريخ على نحو بحيث نشأت في روسيا في سنة ١٩٠٥ السوفييتات، ثم شوهها خلال حقبة فبراير- أكتوبر سنة ١٩١٧ المناشفة الذين فشلوا نتيجة عدم استطاعتهم فهم دورها وأهميتها، وبحيث انبثقت الآن في العالم أجمع فكرة السلطة السوفييتية وهي تنتشر بين بروليتاريا جميع البلدان بسرعة لم ير لها نظير، هذا مع العلم أن صناديد الأممية الثانية القدماء يفشلون في كل مكان لعدم استطاعتهم فهم دور وأهمية السوفييتات، على غرار مناشفتنا. لقد أثبتت التجربة أنه في عدد من المسائل الجذرية للثورة البروليتارية يتعين على جميع البلدان، ولا مناص، أن تحذو حذو روسيا.

لقد بدأ البلاشفة نضالهم المظفر ضد الجمهورية البرلمانية، البورجوازية (في الواقع) وضد المناشفة باحتراس شديد، وهيأوه ليس البتة بسبل مألوفة، خلافا للآراء التي غالبا ما نعثر عليها الآن في أوروبا وأكريكا. إننا لم ندع في مستهل الفترة المذكورة إلى قلب الحكومة، بل كنا نشرح عدم إمكانية قلبها بدون أن تسبقه تعديلات في قوام السوفييتات وميولها. إننا لم ندع إلى مقاطعة البرلمان البرجوازي أي الجمعية التأسيسية، بل كنا نقول رسميا باسم الحزب – منذ كونفرانس أبريل (عام ١٩١٧) لحزبنا – أن جمهورية برجوازية مع جمعية تأسيسية خير من نفس هذه الجمهورية بدون جمعية تأسيسية، وأن جمهورية «العمال والفلاحين»، أي الجمهورية السوفييتية، خير من أية جمهورية برجوازية ديموقراطية، برلمانية. ولولا هذا العمل التحضيري الذي جرى باحتراس ودقة وتبصر خلال مدة طويلة لما استطعنا أن نحرز الانتصار في أكتوبر سنة ١٩١٧ ولا أن نحتفظ بهذا الإنتصار.



        

مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية

الفصل الرابع

في النضال ضد أي من الأعداء داخل حركة العمال نمت البلشفية وصلب عودها وتمرست؟


أولا وبصورة رئيسية في النضال ضد الانتهازية التي انقلبت نهائيا في سنة ١٩١٤ إلى اشتراكية شوفينية، واتخذت نهائيا جانب البرجوازية ضد البروليتاريا. وكانت الانتهازية، بطبيعة الحال، العدو الرئيسي للبلشفية داخل حركة العمال. وهذا العدو لا يزال العدو الرئيسي في النطاق العالمي. وكانت البلشفية ولا تزال تعير الانتباه لهذا العدو أكثر من غيره. وهذه الناحية من نشاط البلاشفة غدت الآن معروفة بدرجة كافية حتى في خارج البلاد.

والحديث عن عدو آخر للبلشفية داخل حركة العمال حديث آخر. ففي الخارج لا يزالون يعرفون قليلا للغاية عن حقيقة أن البلشفية قد نمت وتشكلت وتمرست في نضال مديد ضد الثورية البرجوازية الصغيرة التي تشبه الفوضوية أو تقتبس بعض الشيء منها، والتي تتخلى، في كل ما هو جوهري، عن شروط ومقتضيات النضال الطبقي البروليتاري الدؤوب. لقد تقرر تماماً عند الماركسيين على الصعيد النظري – كما تأكد تماماً من خبرة جميع الثورات والحركات الثورية في أوروبا – إن المالك الصغير (وهو العنصر الاجتماعي المتواجد في كثير من البلدان الأوروبية بنطاق واسع جداً، جماهيري)، إذ يعاني دائما في ظل الرأسمالية من الظلم، وغالبا من تردي معيشته بشدة وسرعة خارقتين ومن الخراب، ينتقل بسهولة إلى الثورة المتطرفة، إلاّ أنه غير قادر على أن يبدي المثابرة والصمود والانتظام والانضباط. وأن البرجوازي الصغير «المنزعج» من جراء فظائع الرأسمالية، هو كالفوضوية، ظاهرة اجتماعية ملازمة لجميع البلدان الرأسمالية. إن عدم ثبات هذه الثورية وعقمها، وقابليتها للتحول سريعا إلى اذعان، وخمول، وحتى إلى شغف «محموم» بهذا التيار البرجوازي أو ذاك الذي غدا «موضة»، إن كل ذلك معروف للجميع. ولكن الاعتراف النظري والمجرد بهذه الحقائق لا ينجي البتة الأحزاب الثورية من الأخطاء القديمة التي تظهر دائمافي مناسبات غير متوقعة وبشكل جديد بعض الشيء، وفي حلل وملابسات لم تشهد سابقا، وفي ظروف خاصة، أصيلة إلى هذا الحد أو ذاك.

كثيرا ما كانت الفوضوية بمثابة عقاب على الخطايا الانتهازية لحركة العمال. وكلا هذين التشويشين مكمل لبعضهما. ولئن كانت الفوضوية في روسيا، على الرغم من تفوق نسبة البرجوازية الصغيرة من سكانها عليها في البلدان الأوروبية، تتمتع، في عهد كل من الثورتين(١٩٠٥ و١٩١٧) وفي زمن التحضير لهما، بنفوذ ضئيل نسبيا، فلا ريب أن الفضل في ذلك يجب إرجاعه، لحد ما، إلى البلشفية التي ظلت على الدوام تكافح الانتهازية بلا هوادة ولا مهادنة. وأقول «لحد ما»، لأن دورا أهم يعود في أمر إضعاف الفوضوية في روسيا إلى واقع أنه توفرت للفوضوية في الماضي (في سبعينات القرن التاسع عشر) إمكانية للتطور بشكل خارق وللكشف بصورة تامة عن عدم صحتها وعدم صلاحها كنظرية مرشدة للطبقة الثورية.

لقد تبنت البلشفية عند ظهورها في عام ١٩١٣ سنة النضال بلا هوادة ض الثورية البرجوازية الصغيرة شبه الفوضوية (أو المستعدة للمغازلة مع الفوضوية)، تلك السنة التي كانت موجودة على الدوام عند الاشتراكية-الديموقراطية الثورية، التي توطدت على الخصوص عندنا في سنوات ١٩٠٠-١٩٠٣ حينما جرى إرساء أسس حزب جماهيري للبروليتاريا الثورية في روسيا. لقد تبنت البلشفية وواصلت النضال ضد الحزب الذي كان يعتبر أكثر من غيره عن نزاعات الثورية البرجوازية الصغيرة، أي ضد حزب «الاشتراكيين-الثوريين»، وذلك في نقاط رئيسية ثلاث. أولاً، إن هذا الحزب، الذي كان ينفي الماركسية، ظل يأبى بعناد (أو بالأحرى لم يستطع) أن يدرك ضرورة المراعاة الموضوعية الدقيقة للقوى الطبقية وللعلاقة فيما بينها قبل مباشرة أي عمل سياسي. ثانيا، أن هذا الحزب كان يرى «ثوريته» الخاصة أو «يساريته» في اعترافه بالإرهاب الفردي وممارسة الاغتيال، الأمر الذي رفضناه نحن الماركسيين رفضا رفضا باتاً. وبديهي أننا رفضنا الإرهاب الفردي انطلاقا من الاعتبارات الفائدة فقط، بينما الأشخاص الذين كان يمكن أن يشجبوا «مبدئيا» إرهاب الثورة الفرنسية الكبرى، أو، بوجه عام، الإرهاب من جانب حزب ثوري منتصر تحاصره برجوازية العالم كله، مثل هؤلاء الأشخاص قد تعرضوا للسخرية والازدراء من قبل بليخانوف في سنوات ١٩٠٠-١٩٠٣، عندما كان بلخانوف ماركسيا وثوريا. ثالثا، كان «الاشتراكيون-الثوريون» يرون «اليسارية» في هزئهم بالأخطاء الانتهازية غير الكبيرة نسبيا لدى الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية، وذلك إلى جانب حذوهم حذو الانتهازيين المتطرفين من نفس هذا الحزب، مثلا، في المسألة الزراعية او في مسألة ديكتاتورية البروليتاريا …

ونقول عرضا إن التاريخ قد أكد الآن على نطاق واسع ،على نطاق عالمي تاريخي ،ذلك الرأي الذي دافعنا عنه على الدوام ، ان الاشتراكية –الديمقراطية الالمانية الثورية (لاحظوا ان بليخانوف قد طالب في سنوات ١٩٠٠-١٩٠٣بفضل برنشتاين من الحزب، وأن البلاشفة الذين تابعوا على الدوام هذه النزعة فضحوا في سنة ١٩١٣ كل خسة ودناءة وخيانة ليغين، أجل، إن الاشتراكية-الديموقراطية الألمانية الثورية كانت أقرب لأكبر درجة من ذلك الحزب الذي تحتاج إليه البروليتاريا الثورية لكي تحرز النصر. والآن، في سنة ١٩٢٠، بعد كل تلك الاخفاقات المشينة وأزمات عهد الحرب والسنوات الأولى لما بعد الحرب، تبين بجلاء أنه من بين جميع الأحزاب الغربية كانت الاشتراكية –الديموقراطية الألمانية الثورية بالذات هي التي قدمت أفضل الزعماء، وأنها كذلك نقهت وشفيت وتقوت من جديد قبل الأحزاب الأخرى. وهذا ما يتبين من مثال حزب السبارتاكيين وكذلك الجناح اليساري، الجناح البروليتاري من «الحزب الاشتراكي –الديموقراطي الألماني المستقل» الذي يشن نضالاً ثابتاً ضد انتهازية وتذبذب كاوتسكي، وهيلفردينغ، وليديبرو، وكريسبين ومن على شاكلتهم. فلئن ألقينا الآن نظرة عامة على عهد تاريخي مكتمل تماماً، ونعني العهد من كومونة باريس إلى أول جمهورية اشتراكية سوفييتية، لاتضح لنا موقف الماركسية العام إزاء الفوضوية محددا تماماً ولا جدال فيه. وقد أصبحت الماركسية على حق في آخر الأمر، ولئن أشار الفوضويون بحق إلى انتهازية الآراء بصدد الدولة السائدة بين أكثرية الأحزاب الاشتراكية، فإن سبب هذه الإنتهازية يعود أولاً إلى تشويه آراء ماركس في الدولة بل وإلى كتمانها المتعمد (ولقد أشرت أنا في كتابي «الدولة والثورة» إلى أن بيبل قد أخفى لمدة ٣٦ سنة، من ١٨٧٥ حتى ١٩١١، رسالة لانجلس يفضح فيها بألمعية خاصة وشدة وصراحة ووضوح، انتهازية النظرات الدارجة للاشتراكية-الديموقراطية بشأن الدولة). وثانيا، ان تصحيح هذه الآراء الانتهازية، والاعتراف بالسلطة السوفييتية وبتفوقها على الديموقراطية البرلمانية البرجوازية، إن كل ذلك قد انبثق بأسرع وأوسع شكل من داخل التيارات الأشد ماركسية بالضبط بين الاحزاب الاشتراكية الأوروبية والأمريكية.

إن نضال البلشفية ضد الانحرافات «إلى اليسار» في حزبها هي قد اتخذ مقاييس كبيرة على الأخص في حالتين: في سنة ١٩٠٨ بصدد مسألة الاشتراك في «البرلمان» الرجعي للغاية وفي جمعيات العمال العلنية التي استنت لها أشد القوانين رجعية ثم في سنة ١٩١٨ (صلح بريست) بصدد مسألة جواز هذه «المساومة» أو تلك.

في سنة ١٩٠٨ فصل البلاشفة «اليساريون» من حزبنا لعنادهم في الامتناع عن فهم ضرورة الاشتراك في «البرلمان» الرجعي للغاية. وهؤلاء «اليساريون» – وفي عدادهم كان كثيرون من الثوريين البارعين الذين غدوا فيها بعد (ولا يزالون) أعضاء شرفاء في الحزب الشيوعي – كانوا يستندون بخاصة إلى تجربة المقاطعة الناجحة لانتخابات سنة ١٩٠٥. فعندما أعلن القيصر في أغسطس سنة ١٩٠٥ دعوة «البرلمان» الاستشاري أعلن البلاشفة مقاطعته – على النقيض من جميع الأحزاب المعارضة ومن المناشفة – وبالفعل ثورة أكتوبر سنة ١٩٠٥ كنسته. إن المقاطعة كانت آنذاك صحيحة لا لسبب أن عدم الاشتراك في البرلمانات الرجعية بوجه عام هو أمر صحيح، بل لصحة تشخيص الظروف الموضوعية التي كانت تؤدي إلى تحول الاضرابات الجماهيرية بسرعة إلى إضراب سياسي ثم إلى إضراب ثوري وبعد ذلك إلى انتفاضة. هذا وأن النضال كان يجري آنذاك حول ما إذا كانت دعوة أول مؤسسة تمثيلية تبقى في يد القيصر، أو أن يبذل الجهد لانتزاعها من يد السلطة القديمة. وطالما لم تكن وما كان ممكنا أن تكون هناك ثقة بتوفر ظروف موضوعية مماثلة، وكذلك بتطورها في هذا الاتجاه وهذه السرعة نفسيهما، فإن المقاطعة لم تعد أمراً صحيحاً.

لقد أغنت المقاطعة البلشفية «للبرلمان» في سنة ١٩٠٥ البروليتاريا الثورية بخبرة سياسية قيمة جدا، إذ بينت أنه من المفيد أحياناً بل ومن اللزوم، عند الجمع بين أشكال النضال العلنية وغير العلنية والبرلمانية وغير البرلمانية، الامتناع عن الأشكال البرلمانية. بيد أنه يكون من أفحش الأخطاء تطبيق هذه الخبرة في ظروف أخرى وموقف آخر تطبيقاً أعمى وعن تقليد ودون تمحيص. فقد كانت غلطة غير خطيرة، وقابلة للتصحيح بسهولة(*). أمّا المقاطعة في سنتي ١٩٠٧ و١٩٠٨ والسنوات التي تلتهما فقد كانت خطأ فاحشاً من العسير إصلاحه، حيث، من جهة، لم يكن ممكناً توقع صعود سريع جداً لموجة ثورية وصيرورتها إلى انتفاضة، وحيث، من جهة أخرى، كانت ضرورة الجمع بين النشاط العلني وغير العلني، تنجم عن كامل الوضوح التاريخي، وضع الملكية البرجوازية الجاري تجديدها. والآن، عندما نلقي نظرة إلى الوراء على الفترة التاريخية المنصرمة تماماً والتي تجلت تماما صلتها بالفترات التالية لها، يغدو واضحاً جداً أن البلاشفة ما كانوا استطاعوا أن يحتفظوا (ناهيك عن أن أن يعززوا ويطوروا ويقووا) بالنواة الصلبة لحزب البروليتاريا الثوري في سنة ١٩٠٨-١٩١٤، لو أنهم لم يذودوا في نضال حامي الوطيس عن الزامية الجمع بين الأشكال العلنية وغير العلنية للنضال، مع إلزامية الاشتراك في البرلمان الرجعي للغاية وفي جملة من المؤسسات الأخرى التي استنت لها قوانين رجعية (كصناديق التأمين وما اليها).

لم يبلغ الأمر في سنة ١٩١٨ حد الانشقاق. فالشيوعيون «اليساريون» قد اكتفوا آنذاك بتشكيل جماعة خاصة أو «كتلة» في داخل حزبنا، ظلت موجودة مدة قصيرة. وفي سنة ١٩١٨ ذاتها اعترف أبرز ممثلي «الشيوعية اليسارية» كالرفيق رادك وبوخارين، بخطئهم أمام الملأ. فقد تراءى لهم أن صلح بريست هو مساومة مع الإمبرياليين غير جائزة مبدئياً ومضرة بحزب البروليتاريا الثورية. وقد كان ذلك في الواقع مساومة مع الإمبرياليين، لكنها كانت مساومة لا مناص منها في ذلك الظرف بالذات.

وفي الوقت الحاضر، عندما اسمع بالتهجمات من جانب «الاشتراكيين-الثوريين» مثلاً، على تكتلنا أثناء توقيع صلح بريست، أو عندما أسمع بملاحظة الرفيق لنسبري التي أبداها في حديثه معي إذ قال أن «زعماءنا الإنجليز في التريديونيونات يقولون أنه ما دامت المساومات كانت جائزة للبلاشفة فإنها جائزة لهم هم أيضا»، أجيب على ذلك قبل كل شيء بهذا المثال البسيط و«المبسط»:

تصوروا أن قطاع طرق مسلحين أوقفوا سيارتكم. فتسلمونهم أنتم الدراهم وورقة الهوية والمسدس والسيارة. وهذا ما يتيح لكم التخلص من رفقة قطاع الطرق «المستطابة». هذه مساومة ولا شك. «Do ut des» «أعطيـ»ك الدراهم والسلاح والسيارة، «لتعطيني أنت» إمكانية الذهاب بأمان وسلامة)، إلاّ أن من العسر أن تجد شخصاً سليم العقل يعتبر مثل هذه المساومة «غير جائزة مبدئياً»، أو يعتبر الشخص الذي أقدم على هذه المساومة شريكاً لقطاع الطرق (حتى وإن استطاع قطاع الطرق بعد أخذهم السيارة والمسدس أن يستخدموها لأعمال لصوصية جديدة). إن مساومتنا مع قطاع الطرق الإمبرياليين الألمان كانت مساومة من هذا القبيل.

ولكن عندما أقدم المناشفة والاشتراكيون-الثوريون في روسيا وشيدمان وأمثاله (ولدرجة كبيرة كاوتسكي وأضرابه) في ألمانيا، وأوتو باور وفرديريخ آدلر (فضلاً عن السادة رينر وشركاه) في فرنسا، والفابيون و«المستقلون» و«العماليون» («اللايبوريون») في إنجلترا، في سنوات ١٩١٤-١٩١٨ و١٩١٨-١٩٢٠، على مساومات مع قطاع الطرق من برجوازيتهم الخاصة وأحياناً مع البرجوازية «الحليفة» ضد البروليتاريا الثورية في بلادهم، سلك جميع هؤلاء السادة بالتالي سلوك شركاء قطاع الطرق.

النتيجة بينة، عن نفي المساومة «مبدئيا»، نفي كل جواز للمساومات بوجه عام، مهما كانت عليه، هو صبيانية يتعذر اخذها على محمل الجد. يجب على السياسي الذي يريد أن يكون مفيداً للبروليتاريا الثورية أن يستطيع تمييز الحالات الملموسة من تلك المساومات بالذات التي ليست جائزة والتي تتجلى فيها الانتهازية والخيانة، وأن يوجه كل قوة النقد وكل حدة الفضح بلا شفقة والحرب بلا هوادة ضد المساومات الملموسة هذه، وأن يحول دون الاشتراكيين «العمليين» المحنكين والجزويتيين البرلمانيين ودون التحايل والتملص من المسؤولية بواسطة محاججات حول «المساومات بوجه عام». إن السادة «الزعماء» البريطانيين للنقابات وكذلك للجمعية الفابية وحزب العمال «المستقل» يتنصلون بهذا الشكل تماما من المسؤولية عن الخيانة التي ارتكبوها، وعن إجرائهم مساومة كهذه هي في الواقع أسوأ أشكال الانتهازية والغدر والخيانة.

هناك مساومات ومساومات. ينبغي التمكن من تحليل الموقف والظروف الملموسة عند كل مساومة وكل نوع من أنواع المساومة. ينبغي على المرء أن يتعلم التمييز بين شخص سلم الدراهم والسلاح إلى قطاع الطرق ليقلل من الشر الذي يسببونه، ويسهل أمر القبض عليهم وإعدامهم، وبين رجل يعطي الدراهم والسلاح لقطاع الطرق ليشترك في اقتسام الاسلاب. أمّا في السياسة فالأمر ليس على الدوام سهلاً هذه السهولة كما في هذا المثل البسيط المفهوم للأطفال. بيد أن من يريد أن يبيتكر للعمال وصفة تتدارك سلفاً قرارات جاهزة لكل أحوال الحياة، أو يعد بألا تقوم في سياسة البروليتاريا الثورية أية مصاعب وأية حالات مبهمة، إنما هو دجال لا أكثر.

ولكي لا تبقى مجال لسوء الفهم، أحاول أن أصوغ، ولو بغاية الاقتضاب، بعض الأحكام الأساسية من أجل تحليل مساومات ملموسة.

إن الحزب الذي عقد مساومة مع الإمبرياليين الألمان بتوقيعه صلح بريست، عمل على صقل أمميته في الواقع منذ نهاية سنة ١٩١٤. فهو لم يخف من أن ينادي بهزيمة الملكية القيصرية، وان يشجب شعار «الدفاع عن الوطن» في الحرب بين الضاريين الإمبرياليين. وقد فضل نواب هذا الحزب في البرلمان طريق النفي إلى سيبريا على الطريق المؤدي إلى الكراسي الوزارية في الحكومة البرجوازية. والثورة التي أسقطت القيصرية وأقامت الجمهورية الديموقراطية قد جعلت هذا الحزب يواجه فحصاً جديداً وعظيماً: فهو لم يقدم على أي اتفاق مع إمبرياليي «بلاده»، بل وقد أعد لإسقاطهم وأسقطهم. وبعد أن أخذ الحزب السلطة السياسية، ألغى كلياً الملكية الإقطاعية والملكية الرأسمالية على السواء. وبعد أن نشر الحزب وفسخ اتفاقيات الإمبرياليين السرية، عرض السلام على جميع الشعوب، ولم يرضخ لقسر الكواسر في بريست إلاّ بعد أن أحبط الإمبرياليين الإنجليز والفرنسيون الصلح، وبعد أن بذل البلاشفة كل ما في وسع الطاقة الانسانية للتعجيل بالثورة في ألمانيا وفي أقطار أخرى. إن كامل صحة هذه المساومة التي عقدها هذا الحزب في مثل هذا الظرف يغدو يوماً بعد آخر أوضح وأجلى للجميع.

إن المناشفة والاشتراكيين-الثورييين في روسيا (مثل جميع زعماء الأممية الثانية في العالم كله في سنوات ١٩١٤-١٩٢٠) قد بدأوا من الخيانة بتبريرهم بصورة مباشرة أو غير مباشرة شعار «الدفاع عن الوطن»، أي الدفاع عن برجوازيـتـهم الناهبة. وقد مضوا في الخيانة بدخولهم في ائتلاف مع برجوازية بلادهم وبشن النضال سوية مع برجوازيتـهم ضد البروليتاريا الثورية في بلادهم. فقد كان تكتلهم بادئ الأمر مع كرينسكي والكاديت وفيما بعد مع كولتشاك ودينيكين في روسيا، شأنه شأن تكتل إخوانهم في الفكر في الخارج مع برجوازية بلدانـهم، انتقالاً إلى جانب البرجوازية ضد البروليتاريا. إن مساومتـهم مع قطاع الطرق الامبرياليين كانت من أولها إلى آخرها عبارة عن جعلهم أنفسهم شركاء في اللصوصية الإمبريالية.



        

مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية

الفصل الخامس

الشيوعية «اليسارية» في ألمانيا.


الزعماء-الحزب-الطبقة-الجماهير

إن الشيوعيين الألمان الذين ينبغي أن نتحدث عنهم الآن، لا يسمون أنفسهم «باليساريين»، بل – حسبما أعتقد – «بالمعارضة المبدئية». أمّا أن علائم «مرض اليسارية الطفولي» تنطبق عليهم تماماً، فذلك ما سيتضح من العرض التالي:

فالكراس المسمى «انشقاق الحزب الشيوعي الألماني (اتحاد السبارتاكيين)»، الذي يعكس وجهة نظر هذه المعارضة والذي أصدرته «الفرقة المحلية في فرانكفورت على الماين»، يعرض بمنتهة الالمعية والدقة والوضوح والاقتضاب جوهر آراء هذه المعارضة. ونقل بضعة مقاطع منه يكفي لاطلاع القراء على هذا الجوهر:

«الحزب الشيوعي هو حزب النضال الطبقي الأشد عزما…»

«… إن هذه المرحلة الانتقالية» (بين الرأسمالية والاشتراكية) «هي، من الناحية السياسية، مرحلة ديكتاتورية البروليتاريا…»

«… ويتبادر إلى الذهن هذا السؤال: من ذا الذي يجب أن يضطلع بالديكتاتورية: الحزب الشيوعي أم الطبقة البروليتارية.. هل ينبغي مبدئيا أن نسعى إلى ديكتاتورية الحزب الشيوعي أم إلى ديكتاتورية الطبقة البروليتارية...».

(كل إشارات التأكيد مأخوذة من المتن الأصلي).

ثم يتهم صاحب الكراس «اللجنة المركزية» للحزب الشيوعي الألماني بأن هذه «اللجنة المركزية» تبحث عن طريق للائتلاف مع الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني المستقل، وأن «مسألة الاعتراف مبدئيا بجميع الوسائل السياسية» للنضال، بما فيها الوسائل البرلمانية، لا تطرحها هذه «اللجنة المركزية» إلاّ لتغطية نزوعها الحقيقي والأساسي نحو الائتلاف مع المستقلين. ويمضي الكراس ويقول:

«لقد اختارت المعارضة طريقاً آخر. فهي ترى أن مسألة سيادة الحزب الشيوعي وديكتاتورية الحزب ليست سوى مسألة التكتيك. وعلى كل حال، إن سيادة الحزب الشيوعي هي آخر شلك لكل سيادة للحزب. ينبغي مبدئيا السعي إلى ديكتاتورية الطبقة البروليتارية. ولك تدابير الحزب ومنظماته وشكل نضاله وستراتيجيته وتكتيكه يجب أن تتفق وهذا الأمر. ونظرا لذلك يجب أن ترفض بكل حزم أية مساومة مع الأحزاب الأخرى، وأية عودة إلى أشكال النضال البرلمانية التي ولى عهدها تاريخيا وسياسيا، وأية سياسة للمناورة والتوفيق». «يجب التنبيه بشدة إلى الأساليب البروليتارية الصرفة في النضال الثوري. ومن أجل اجتذاب أوسع الأوساط والفئات البروليتارية التي يجب أن تسير في النضال الثوري تحت قيادة الحزب الشيوعي لا بد من إيجاد أشكال تنظيمية جديدة قائمة على أسس وسيعة للغاية وفي حدود واسعة للغاية. إن هذا المحل لحشد العناصر الثورية جميعا هو اتحاد العمال المبني على أساس من منظمات المصانع. وفيه يجب أن يتحد جميع العمال الذين يقتفون شعار: أخرجوا من النقابات! هنا تتشكل البروليتاريا المناضلة في أوسع صفوفها الكفاحية. ويكفي للدخول فيه الاعتراف بالنضال الطبقي والنظام السوفييتي والديكتاتورية. وكل ما يلي ذلك من تربية الجماهير المناضلة تربية سياسية والتوجيه السياسي في النضال هو مهمة الحزب الشيوعي الذي يبقى خارج اتحاد العمال…»

«…إذن، فإن هناك الآن حزبين شيوعيين يواجه أحدهما الآخر: أحدهما هو حزب الزعماء الذي ينزع لتنظيم النظال الثوري، وقيادته من أعلى ويقدم على المساومات وعلى البرلمانية، وكذلك قصد إيجاد حالات تتيح لهؤلاء الزعماء الاشتراك في حكومة ائتلافية تكون الديكتاتورية في يدها.

والآخر هو حزب الجماهير الذي يتوقع نهوض النضال الثوري من أسفل، والذي يعرف ويطبق في هذا النضال أسلوبا واحداً فقط مؤدياً بشكل واضح إلى الهدف،ويرفض جميع الأساليب البرلمانية والانتهازية، وهذا الأسلوب الأوحد هو إسقاط البرجوازية دون قيد أو شرط لكيما تقام بعد ذلك الديكتاتورية الطبقية البروليتارية من أجل تحقيق الاشتراكية…»

«…هناك ديكتاتورية الزعماء، وهنا ديكتاتورية الجماهير! هذا هو شعارنا».

تلك هي أهم الأحكام التي تميز آراء المعارضة في الحزب الشيوعي الألماني.

إن كل بلشفي ساهم عن وعي في تطوير البلشفية منذ سنة ١٩٠٣ أو شاهده عن كثب سيقول في الحال بعد قراءته هذه المحاججات: «يا له من هراء قديم ومعروف من زمان! يا لها من صبيانية «يسارية»!».

ولكن لنتفحص هذه المحاججات عن قرب.

إن طرح المسألة على هذا النحو: «ديكتاتورية الحزب أم ديكتاتورية الطبقة؟ وديكتاتورية حزب الزعماء أم ديكتاتورية (حزب) الجماهير؟» يشهد وحده بتشوش الفكر لدرجة بالغة بل وفظيعة. إنهم يجهدون لإختراع شيء ما خارق تماماً، ولكنهم، إذ يقدحون زناد فكرهم، يقون في وضع مضحك. إن كل واحد يعرف أن الجماهير تنقسم إلى طبقات، وأن معارضة الجماهير بالطبقات غير ممكنة إلاّ بمعارضة الأكثرية الكبرى بوجه عام، دون تقسيمها حسب وضعها في نظام الانتاج الإجتماعي، بالفئات التي تشغل مركزاً خاصاً في نظام الإنتاج الإجتماعي، وأن الكطبقات في العادة، وفي أغلبية الحالات، وعلى الأقل في البلدان المتمدنة المعاصرة، تقودها الأحزاب السياسية، وأن الأحزاب السياسية، كقاعدة عامة، تدار من قبل جماعات ثابتة نسبيا من الأشخاص الأكثر سمعة ونفوذاً وتجربة، ممن انتخبوا للمناصب الأكثر مسؤولية، ويدعون بالزعماء. تلك كلها بديهيات أبجدية، إن كل ذلك بسيط وواضح. فما الداعي إلى استبدال ذلك بمثل هذه الرطانة ولغة الفولابيوك الجديدة هذه؟ فمن جهة، حسبما يبدو، ارتبك هؤلاء، إذ احرجهم تحول الحزب بسرعة من الوضع العلني إلى النشاط السري، بحيث تختل بذلك العلاقات العادية والمرتبة والبسيطة بين الزعماء والأحزاب والطبقات. لقد اعتادوا في ألمانيا، كما في سائر البلدان الأوروبية، اعتماداً يفوق الحد على النشاط العلني وعلى انتخاب «الزعماء» إنتخاباً حراً وسليماً في مؤتمرات الحزب المنتظمة، وعلى الفحص المريع لتركيب الأحزاب الطبقي عن طريق الانتخابات البرلمانية والاجتماعات والصحافة وتتبع أمزجة النقابات وغيرها من الاتحادات الخ… وعندما اضطروا، بحكم سير الثورة وتطور الحرب الأهلية العاصفين، للانتقال من هذا الوضع المألوف، للإنتقال بسرعة من الحالة العلنية إلى السرية وإلى الجمع بين الإثنين، إلى الطرق «غير المريحة» و«غير الديموقراطية» من أجل انتقاء أو تشكيل أو حفظ «جماعات الزعماء»، تحير هؤلاء، وأخدوا يلفقون تلفيقات خرقاء. أغلب الظن، أن بعض أعضاء الحزب الشيوعي الهولندي الذين ولدوا، لسوء طالعهم، في بلاد صغيرة ذات تقاليد وظروف ممتازة جداً وثابتة جدا للنشاط العلني، والذين لم يشهدوا قط تبدل الظروف العلنية بالسرية، قد ارتبكوا وتحيروا وساعدوا في إيجاد هذه التلفيقات السخيفة.

ومن جهة أخرى، يلاحظ استعمال الكلمات «الرائجة» في وقتنا الراهن بصدد «الجمهور» و«الزعماء» استعمالا طائشاً. لقد سمع الناس وحفظوا كثيرا من الهجمات على «الزعماء»، ومن الأقوال بخصوص معارضتهم «بالجمهور»، لكنهم لم يستطيعوا أن يفكروا في ماهية الأمر، وأن يأخذوا فكرة واضحة عنه.

إن الخلاف بين «الزعماء» و«الجماهير» قد تجلى بمنتهى الوضوح والشدة في أواخر الحرب الإمبريالية وعلى أثرها في جميع البلدان. وسبب هذه الظاهرة الأساسي قد شرحه ماركس وإنجلس مراراً عديدة في سنوات ١٨٥٢-١٨٩٢ بمثال إنجلترا. فوضع إنجلترا الاحتكاري قد فرز من بين «الجماهير» «فئة الاريستوقراطية العمالية» وهي فئة انتهازية وتسبه البرجوازية الصغيرة. وكان زعماء هذه الاريستوقراطية العمالية ينتقلون على الدوام إلى جانب البرجوازية، وكانوا، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، يتقاضون منها الجرايات. وقد حظى ماركس بحقد هؤلاء الأنذال المشرف إذ كان يصمهم علناً بالخيانة. لقد أوجدت الامبريالية الحديثة (إمبريالية القرن العشرين) وضعا احتكاريا ممتازا لعدد من البلدان المتقدمة، وعلى هذه التربة نشأ في كل مكان في الأممية الثانية صنف من الزعماء الخونة، الانتهازيين والاشتراكيين-الشوفينيين، المدافعين عن مصالح فريقهم الخاص وفئتهم الخاصة من الاريستوقراطية العمالية. وهكذا نشأ انفصال الأحزاب الانتهازية عن «الجماهير»، أي عن أوسع فئات الكادحين، وأكثريتهم، وأقل العمال أجراً. إن انتصار البروليتاريا الثورية مستحيل بدون مكافحة هذا الشر وبدون فضح الزعماء الاشتراكيين-الخونة الانتهازيين والتشهير بهم وطردهم؛ وهذه السياسة بالذات انتهجتها الأممية الثالثة.

وأن الوصول في المحاججات بهذا الصدد إلى حد مواجهة ديكتاتورية الجماهير، بشكل عام، بديكتاتورية الزعماء، هو بلادة وسخافة تدعوا للضحك. والمضحك بوجه خاص أنهم يقدمون في الواقع، عوضا عن الزعماء القدماء ذوي النظرات الانسانية العامة في الأشياء البسيطة، (تحت ستار شعار «ليسقط الزعماء») زعماء جدداً يدلون باباطيل وسخافات في منتهى الحماقة. وهؤلاء الأشخاص هم في ألمانيا لاوفنبرغ وفولفهايم وهورنر وكارل شريدر وفريدريخ فيندال وكارل ارلرز[١] ومحاولات هذا الأخير «تعميق» المسألة وإعلان الأحزاب السياسية بوجه عام غير لازمة و«برجوازية» ليست إلاّ ضربا من أعمدة هرقلية من السخافة يدع الإنسان في حيرة. فإن الخطأ الصغير، والحق يقال، يمكن دائما تحويله إلى خطأ فاحش فظيع إذا ما أصر المرء على الخطأ، وإذا ما تمادى في تعليله، وإذا ما «سار به حتى النهاية».

إن النتيجة التي حصلت عند المعارضة هي انكار الحزبية والانضباط الحزبي. وهذا ما يعادل تجريد البروليتاريا من السلاح تجريداً تاماً لصالح البرجوازية. وهذا ما يعادل ذلك التشتت والتذبذب الملازمين للبرجوازية الصغيرة وعدم قدرتها على الصمود والاتحاد والأعمال المنسقة، مما لو قوبل بالتغاضي لأودى، لا محالة، بأية حركة ثورية بروليتارية. إن نفي الحزبية من وجهة نظر الشيوعية يعني القفز من عشية سقوط الرأسمالية (في ألمانيا)، لا إلى المرحلة الدنيا أو المتوسطة من الشيوعية، بل إلى مرحلتها العليا. نحن في روسيا (في السنة الثالثة بعد إسقاط البرجوازية) نخطو الخطوات الأولى في طريق الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية أي إلى الطور الأدنى للشيوعية. لقد بقيت الطبقات وهي ستبقى في كل مكان طوال سنوات بعد ظفر البروليتاريا بالسلطة. ربما تكون هذه المدة أقصر في إنجلترا حيث لا يوجد فلاحون (ولكن، على كل حال، يوجد صغار الملاكين!). إن القضاء على الطبقات لا يعني فقط طرد الملاكين العقاريين والرأسماليين، فهذا ما قمنا به نحن بسهولة نسبيا، إنه يعني كذلك القضاء على منتجي البضائع الصغار، وهؤلاء لا يمكن طردهم، ولا يمكن قمعهم، إنما يلزم أن نتعايش معهم، فمن الممكن (والواجب) إصلاحهم وتربيتهم على نمط جديد، وذلك فقط بواسطة عمل تنظيمي مديد يحقق ببطء واحتراس. فهؤلاء يحيطون بالبروليتاريا من جميع الجهات بروح البرجوازية الصغيرة، وهذه الروح تتسرب في البروليتاريا وتفسدها، وتسبب على الدوام في أوساط البروليتاريا إنتعاش ما يلازم البرجوازية الصغيرة من ميوعة وتشتت وفردية وتأرجح بين الحماسة والخمود. فلا بد من أن تسود داخل حزب البروليتاريا السياسي المركزية والانضباط الشديدان للغاية لمكافحة ذلك، ولاداء دور البروليتاريا التنظيمي (الذي هو دورها الرئيسي) أداء صحيحا وموفقا ومظفرا. إن ديكتاتورية البروليتاريا هي عبارة عن نضال عنيد، دموي وغير دموي، قسري وسلمي، حزبي واقتصادي، تربوي وإداري، يشن ضد قوى وتقاليد المجتمع القديم. إن قوة العادة عند الملايين وعشرات الملايين من الناس لهي أرهب قوة. وبدون حزب حديدي متمرس في النضال، حزب يتمتع بثقة كل ما هو شريف في الطبقة المعنية، حزب يتحلى بمعرفة تتبع مزاج الجماهير والقادر على أن يؤثر فيه، يستحيل خوض هذا النضال بنجاح. إن الانتصار على البرجوازية الكبيرة المتمركزة لأهون ألف مرة من «الانتصار» على الملايين والملايين من المالكين الصغار، فهؤلاء يوجدون بنشاطهم اليومي العادي غير الملحوظ وغير الملموس والمفسد، ذات النتائج التي تحتاج إليها البرجوازية، والتي تبعث البرجوازية. إن من يضعف، ولو لحد ضئيل للغاية، نظم الانضباط الحديدي في حزب البروليتاريا (ولا سيما في عهد ديكتاتوريتها)، يساعد عمليا البرجوازية ضد البروليتاريا.

وإلى جانب مسألة الزعماء والحزب والطبقة والجماهير ينبغي طرح مسألة النقابات «الرجعية». ولكني أسمح لنفسي قبل ذلك بأن أورد بعض الملاحظات الختامية على أساس خبرة حزبنا. فالهجمات على «ديكتاتورية الزعماء» كانت في حزبنا موجودة على الدوام. واني لأتذكر حملات من هذا النوع لأول مرة في سنة ١٨٩٥، حينما لم يكن الحزب موجودا بعد رسميا، بيد أنه بدأت تتشكل هيئة مركزية له في بطرسبورغ، وكان يجب عليها أن تتولى قيادة الفرق المحلية. وفي المؤتمر التاسع لحزبنا (أبريل ١٩٢٠) وجدت معارضة صغيرة كانت تتحدث هي الأخرى ضد «ديكتاتورية الزعماء» وضد «حكم القلة»، الخ.. وكذلك فلا شيء غريب أو جديد أو خطر في «المرض الطفولي» «للشيوعية اليسارية» عند الألمان. وهذا المرض يزول دون خطر وحتى أن الجسم يصبح بعد ذلك أقوى مما كان. ومن جهة أخرى، إن تبدل النشاط السري بالعلني تبدلاً سريعا، الأمر الذي يسفر عن ضرورة «كتم» هيئة الأركان الرئيسية بالذات، أي الزعماء بالذات، كتما خاصا كان يؤدي عندنا أحيانا إلى عواقب خطرة للغاية. وأسوأها أنه في سنة ١٩١٢، تسلل إلى اللجنة المركزية البلشفية الجاسوس مالينوفسكي. فقد وشى هذا الشخص بالعشرات والعشرات من خيرة الرفاق وأكثرهم إخلاصا، وبذلك أسهم في الزج بهم في سجون الأشغال الشاقة، وعجل في موت الكثيرين منهم. ولئن لم يسبب شرً أكبر فذلك لأننا نظمنا الجمع الصحيح بين العمل العلني وغير العلني. فلكيما يحرز مالينوفسكي الثقة عندنا، كان يجب عليه، بوصفه عضوا في اللجنة المركزية ونائبا في الدوما، أن يساعدنا في تنظيم جرائدنا العلنية اليومية التي استطاعت في عهد القيصرية أيضا أن تشن النضال ضد انتهازية المناشفة، وأن تروج لمبادئ البلشفية بشكل مستتر كما ينبغي. كان يجب على مالينوفسكي، وهو يعمل بيد على إرسال العشرات والعشرات من خيرة نشطاء البلشفية إلى سجون الأشغال الشاقة وإلى الموت، أن يساعد باليد الأخرى في أمر تربية عشرات وعشرات الألوف من البلاشفة الجدد وذلك عن طريق الصحافة العلنية. فحبذا لو تأمل في هذا الواقع أولئك الرفاق الألمان (وكذلك الإنجليز والأمريكان والفرنسيين والإيطاليين) ممن تواجههم مهمة التضلع بالعمل الثوري في النقابات الرجعية[٢].

لا شك في أن البرجوازية في كثير من البلدان، بما فيها البلدان الأكثر تطورا، ترسل اليوم وسترسل الجواسيس إلى صفوف الأحزاب الشيوعية. فإن احدى وسائل مكافحة هذا الخطر، هي الجمع بين العمل العلني وغير العلني بمهارة.





[١] جاء في «جريدة العمال الشيوعية» (الصادرة بهامبورغ في ٧ فبراير ١٩٢٠ في العدد ٣٢، في مقالة عنوانها «حل الحزب» لكارل ارلر) ما يلي: «لا تستطيع الطبقة العاملة أن تحطم الدولة البرجوازية بدون القضاء على الديموقراطية البرجوازية، كما أنها لا تستطيع أن تقضي على الديموقراطية البرجوازية بدون تحطيم الأحزاب».
إن أشد الأفراد ارتباكا من بين السنديكاليين والفوضويين في البلاد اللاتينية بوسعها أن «ترتاح»، إذ أن المانيين وقورين يحسبون أنفسهم، حسبما يبدو ماركسيين (ك. ارلر، وك. هورنر يثبتان بوقار خاص، بمقالاتهما في الجريدة المذكورة، أنهما يعتبران نفسيهما ماركسيين قحين ويتشدقان بسخافات مضحكة للغاية، مثبتين عدم فهمهما لالفباء الماركسية) يذهبون إلى حد التفوه بأشياء غير لائقة أبداً. إن مجرد الاعتراف بالماركسية لا يجنب من الأخطاء. والروس بخاصة يعرفون ذلك جيداً، لأن الماركسية كثيرا ما ظهرت عندنا على الخصوص بشكل «موضة».

[٢] كان مالينوفسكي أسيرا في ألمانيا. وعندما رجع إلى روسيا في عهد حكم البلاشفة سلم في الحال إلى المحكمة وأعدم على يد عمالنا رميا بالرصاص. وقد كان المناشفة يهاجموننا بحقد شديد من جراء خطئنا هذا، خطأ وجود دساس في لجنة حزبنا المركزية. ولكن عندما طالبنا نحن في عهد كيرنسكي باعتقال ومحاكمة رودزيانكو، رئيس مجلس الدوما، الذي كان على علم بتجسس مالينوفسكي حتى قبل الحرب، ولم يخبر بذلك نواب الترودوفيك ولا العمال في الدوما، لم يؤيد المناشفة ولا الاشتراكيون-الثوريون، المشتركون مع كيرنسكي في الحكومة، طلبنا، وبقي رودزيانكو طليقا، فهرب إلى دينيكين.

        

مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية

الفصل السادس

هل ينبغي أن يعمل الثوريون في النقابات الرجعية؟


يعتبر«اليساريون» هذا الأمر مفروغاً منه، وهو أن الجواب على هذا السؤال سلبي دون قيد أو شرط. ففي رأيهم أن الخطب والهتافات الحانقة ضد النقابات «الرجعية» و«المضادة للثورة» كافية (ويعلل ذلك ك. هورنر «بوقار» خاص وبلادة خاصة) «لاثبات» عدم ضرورة وحتى عدم جواز عمل الثوريين، الشيوعيين في النقابات الصفراء والنقابات الاشتراكية-الشوفينية والتوفيقية ونقابات ليغين والنقابات المضادة للثورة.

ولكن مهما وثق «اليساريون» الألمان من ثورية مثل هذا التكتيك، فإنه في الواقع خطأ من الأساس، وأنه لا يتضمن سوى عبارات جوفاء.

ولشرح ذلك أبدأ من تجربتنا، وفقا للخطة العامة لهذه المقالة التي هدفها هو أن يطبق على أوروبا الغربية ما في تاريخ البلشفية وتكتيكها المعاصر من أمور شاملة التطبيق وذات أهمية للجميع وإلزامية للجميع.

إن العلاقة بين الزعماء والحزب والطبقة والجماهير، وكذلك موقف ديكتاتورية البروليتاريا وحزبها من النقابات هما عندنا الآن على النحو الملموس التالي. تحقيق الديكتاتورية على يد البروليتاريا المنظمة في السوفييتات، والبروليتاريا يقودها الحزب الشيوعي البلشفي الذي يضم في صفوفه حسب احصاء المؤتمر الحزبي الأخير (أبريل ١٩٢٠)، ٦١١ ألف عضو. وقد كان عدد الأعضاء سواء قبل ثورة أكتوبر أو بعدها يتراوح بشدة كبيرة وفي السابق وحتى في سنتي ١٩١٨ و١٩١٩ كان أقل من ذلك بكثير. إننا نتحذر من اتساع الحب اتساعاً مفرطاً، لأن هناك وصوليين ونصابين لا يجدر بهم سوى الاعدام بالرصاص، يسعون إلى الالتصاق من كل بد بالحزب الحاكم. إن آخر مرة فتحنا فيها أبواب الحزب على مصاريعها (العمال والفلاحين فقط) كانت (في شتاء سنة ١٩١٩) عندما كان يودينيتش على بعد بضعة كيلومترات من بتروغراد وكان دينيكين في أوريل (على بعد حوالي ٣٧٠ كيلومتر من موسكو)، أي عندما كان يهدد الجمهورية السوفييتية خطر هائل مميت، وعندما لم يكن بوسع المغامرين والوصوليين والنصابين، وضعفاء العزيمة عموما، أن يأملوا أبداً بتحقيق مآربهم الوصولية (بل بالأحرى كان بوسعهم أن يتوقعوا المشانق والعذاب) من جراء التحاقهم بالحزب الشيوعي. والحزب الذي يعقد مؤتمره سنويا (وفي المؤتمر كان كل مندوب واحد يمثل ألف عضو) تقوده لجنة مركزية منتخبة في المؤتمر ومؤلفة من ١٩ عضواً، هذا مع العلم أن مهمة تصريف الأمور اليومية ملقاة في موسكو على هيئتين أضيق من تلك، هما المكتب التنظيمي والمكتب السياسي، وكل منهما مؤلف من خمسة أعضاء من اللجنة المركزية يجري انتخابهم في دورات اللجنة المركزية. والنتيجة هي إذن وجود «حكم القلة» بكل معنى الكلمة. فما من مسألة هامة، سياسية أو تنظيمية، تحلها دائرة الدولة في جمهوريتنا بدون إرشادات توجيهية من لجنة الحزب المركزية.

يستند الحزب في نشاطه مباشرة إلى النقابات التي تضم في صفوفها الآن، حسب إحصاء المؤتمر الأخير (أبريل ١٩٢٠)، أكثر من أربعة ملايين عضو والتي هي رسمياً غير حزبية. والواقع أن جميع الهيئات الإدارية لمعظم النقابات، وبالدرجة الأولى، طبعا، المركز أو المكتب النقابي لعموم روسيا (مجلس النقابات المركزي لعامة روسيا) تتألف من الشيوعيين وتنفيذ جميع توجيهات الحزب. والحاصل، على وجه العموم، هو جهاز بروليتاري، قوي للغاية، واسع نسبيا ومرن، جهاز غير شيوعي رسميا، يرتبط بواسطته الحزب ارتباطا وثيقا بالطبقة وبالجماهير ويجري بواسطته، في ظل قيادة الحزب، تحقيق ديكتاتورية الطبقة وبديهي أنه لم يكن باستطاعتنا أن ندير البلاد، ونحقق الديكتاتورية، لا مدة سنتين ونصف، بل حتى شهرين ونصف، بدون الارتباط مع النقابات أوثق الارتباط وبدون تأييدها التام وبدون نشاطها المتفاني لا على صعيد البناء الاقتصادي وحده بل على صعيد البناء العسكري أيضاً. ومفهوم أن هذا الإرتباط الوثيق هو في الواقع عبارة عن نشاط معقد متنوع في حقل الدعاية والتحريض وإجراء المداولات المتكررة وفي الوقت اللازم ليس مع القادة النقابيين وحدهم، بل كذلك مع نشطاء النقابات المتنفذين عموما. وفي حقل النضال الحاسم ضد المناشفة، الذين لا يزال لهم أشياع، وإن قليلي العدد، والذين يعلمون أشياعهم مختلف الدسائس المضادة للثورة، ابتداء من الدفاع الفكري عن الديموقراطية (البرجوازية)، ومن التبشير بـ«استقلال» النقابات (استقلالها عن سلطة الدولة البروليتارية!)، إلى نسف نظام الانضباط البروليتاري والخ، وهلم جراً.

إننا لا نعتبر الارتباط «بالجماهير» عن طريق النقابات أمراً كافيا. فقد أسفرت تطورا الأمور عندنا في مجرى الثورة عن نشوء مؤسسة كمؤتمرات العمال والفلاحين غير الحزبية، ونحن نسعى بكل الجهود لدعمها وتطويرها وتوسيعها، وذلك لنتتبع مزاج الجماهير ونتقرب منها ونستجيب لطلباتها ونقدم خيرة أفرادها لوظائف الدولة وغير ذلك. فبموجب أحد المراسيم الأخيرة بشأن تحويل مفوضية الشعب لمراقبة الدولة إلى «التفتيش العمالي والفلاحي» خولت مثل هذه المؤتمرات غير الحزبية حق انتخاب أعضاء هيئة رقابة الدولة لمختلف أنواع التفتيش وغير ذلك.

ثم إن من البديهي أن يجري الحزب كله عمله عن طريق السوفييتات التي توحد جماهير الكادحين بغض النظر عن مهنهم. إن مؤتمرات السوفييتات للأقضية هي عبارة عن مؤسسة ديموقراطية لم تشهدها بعد أفضل الجمهوريات الديموقراطية في العالم البرجوازي، وعن طريق هذه المؤتمرات (التي يسعى الحزب لبذل أكبر اهتمام بها) وكذلك عن طريق تعيين العمال الواعين لمناصب مختلفة في الريف، يجري تحقيق الدور القيادي للبروليتاريا إزاء الفلاحين، وديكتاتورية بروليتاريا المدن، والنضال المنظم ضد الفلاحين الأغنياء والمتبرجزين والاستغلاليين والمضاربين وغير ذلك.

تلك هي الآلية العامة للسلطة البرجوازية للدولة كما تبدو «من أعلى»، من وجهة نظر التطبيق العملي للديكتاتورية. إننا نأمل أن يفهم القارئ لماذا لا يعتبر البلشفي الروسي، الذي يعرف هذه الآلية والذي شهد انبثاقها من حلقات صغيرة سرية وغير شرعية خلال ٢٥ سنة، التشدقات مثل: «من أعلى» أو «من أسفل»، دكتاتورية الزعماء أو ديكتاتورية الجماهير الخ.، غير هراء صبياني مضحك أشبه بجدل يدور حول أيهما أنفع للإنسان، القدم اليسرى أم اليد اليمنى.

ولا يسعنا كذلك إلاّ أن نعتبر هراء صبيانياً مضحكاً تشدقات اليساريين الألمان العلمية جداّ، والثورية لدرجة فظيعة، القائلة بأنه لا يجوز للشيوعيين ولا يجب عليهم أن يعملوا في النقابات الرجعية، وبأن من الجائز الامتناع عن هذا العمل، وبأنه ينبغي الخروج من النقابات وإنشاء «اتحاد عمالي» مستحدث تماماً، ونظيف تماماً، يبتدعه شيوعيون لطيفون للغاية (وفتيان في معظمهم، أغلب الظن) والخ. وهلم جراً.

إن الرأسمالية تترك للاشتراكية، لا محالة، ميراثاً هو، من جهة، الفوارق القديمة المهنية والحرفية الناشئة خلال القرون بين العمال، ومن جهة أخرى، النقابات التي لا يمكنها أن تتطور ولن تتطور إلاّ بشكل بطيء جداً، طوال سنوات عديدة، إلى نقابات إنتاجية أكثر اتساعاً، وأقل اتساماً بروح الحرفية (وتحتضن صناعات بكاملها، لا طرائف الحرفيين والحرف والمهن وحدها) ثم بعد ذلك، وعن طريق هذه النقابات الانتاجية، يجري الانتقال إلى القضاء على تقسيم العمل بين الأفراد، وإلى تربية وتعليم وإعداد أناس متطورون من جميع النواحي ومتعلمين من جميع النواحي، أي أناس قادرين على عمل كل شيء. إن الشيوعية تسير نحو هذا الهدف ويجب أن تسير نحوه، وستدركه، ولكن بعد سنوات طوال. إلاّ أن محاولة التوصل عملياً اليوم إلى ما هو حصيلة للشيوعية المتطورة تماماً والراسخة تماماً والمكتملة والناضجة تماما، إنما هي بمثابة محاولة تعليم الرياضيات العالية من الرابعة من العمر.

إن بإمكاننا (ويجب علينا) أن نشرع في بناء الاشتراكية ليس من مادة بشرية خيالية أو من مادة نوجدها خصيصاً، بل من تلك التي أورثتنا إياها الرأسمالية. حثاً إن ذلك «عسير» للغاية، ولكن أي موقف آخر من حل المهمة سيكون موقفاً غير جدي إلى حد أنه لا يستحق حتى الحديث عنه.

كانت النقابات في مستهل تطور الرأسمالية تقدماً هائلاً للطبقة العاملة، على اعتبارها انتقالاً من تشتت وعجز العمال إلى باكورة اتحادهم الطبقي. وعندما أخذ ينشأ أعلى أشكال اتحاد البروليتاريين الطبقي. ونعني حزب البروليتاريا الثوري (الذي لن يستحق هذه التسمية إلاّ إذا أجاد جميع الزعماء والطبقة والجماهير في كل واحد لا يتجزأ)، بدأ يظهر لدى النقابات، لا محالة، بعض من السمات الرجعية، وبعض من الضيق الحرفي، وميل نحو اللامبالاة في السمات الرجعية، وبعض من الضيق الحرفي، وميل نحو اللامبالاة في السياسة وبعض من التحجر الخ.. لكن تطور البروليتاريا لم يجر وما كان ممكناً أن يجري في أي مكان في العالم إلاّ عن طريق النقابات، عن طريق تفاعلها مع حزب الطبقة العاملة. إن ظفر البروليتاريا بالسلطة السياسية هو خطوة هائلة إلى الأمام تقطعها البروليتاريا كطبقة، ولذا يجب على الحزب أكثر من السابق أن يربي النقابات، لا بالطريقة القديمة وحدها، بل وبطريقة جديدة، وان يقودها، وأن لا ينسى، إلى جانب ذلك، أن النقابات تبقى وستبقى لزمن مديد «مدرسة للشيوعية» لا بد منها، مدرسة لإعداد البروليتاريا لأجل تحقيق ديكتاتوريتها، إتحادً ضرورياً للعمال من أجل تأمين انتقال زمام ادارة كامل اقتصاد البلاد انتقالاً تدريجياً إلى يد الطبقة العاملة (لا بعض المهن)، ثم إلى أيدي الكادحين جميعاً.

إن «رجعية» النقابات لحدما، بالمعنى المذكور، هي أمر لا مناص منه في ظل ديكتاتورية البروليتاريا. وعدم فهم هذه الحقيقة يعني عدم الادراك التام للشروط الأساسية للانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية. والخوف من هذه «الرجعية»، ومحاولة تحاشيها، وتخطيها حماقة كبرى، لأن هذا يعني الخوف من ذلك الدور الذي يقع على عاتق الطليعة البروليتارية والذي يتلخص في تعليم وتثقيف الفئات والجماهير الأكثر تأخراً من الطبقة العاملة والفلاحين وفي تربيتها واجتذابها إلى الحياة الجديدة. ومن الجهة الأخرى، إن إرجاء تحقيق ديكتاتورية البروليتاريا إلى حين لا يبقى عامل واحد ذو ميول مهنية ضيقة، أو عامل واحد ذو أوهام حرفية وتريديونيونية، هو خطأ أفدح أيضاً. إن فن السياسي (وفهم الشيوعي فهماً صحيحاً لواجباته) يتلخص بالضبط في التحديد الصائب للظرف واللحظة اللذين تستطيع فيهما طليعة البروليتاريا أن تقبض على زمام السلطة بنجاح، وتستطيع أن تحظى أثناء ذلك وبعد ذلك بالتأييد الكافي من الوساط الواسعة لدرجة كافية من الطبقة العاملة والجماهير الكادحة غير البروليتارية، وتستطيع بعد ذلك أن تحفظ وتعزز وتوسع سيطرتها، إذ تربي وتعلم وتجتذب جماهير أوسع فأوسع من الكادحين.

وبعد، إن بعض رجعية النقابات تبدت في بلدان أكثر تطوراً من روسيا، وكان من المحتم أن تتبدى فيها، بلا شك، لدرجة أكبر مما في بلادنا. لقد كان للمناشفة عندنا سند ف النقابات (ولا يزال لهم هذا السند الآن بصورة جزئية في عدد قليل جداً من النقابات) بسبب ضيق الأفق الحرفي والأنانية المهنية والانتهازية. وفي الغرب «استقر» المناشفة المحليون في النقابات بصورة أوطد بكثير، فقد تشكلت هناك فئة أقوى بكثير مما عندنا، فئة «الاريستوقراطية العمالية» الضيقة المتشبعة بروح المهنية والأنانية والقساوة والجشع والبرجوازية الصغيرة، والموالية للامبريالية والمشتراة والمفسدة من قبل الامبريالية. هذا ما لا يقبل الجدال. إن النضال ضد غومبرس وأضرابه والسادة جوهو وهيندرسون وميرهايم وليغين وأمثالهم وشركاهم في أوروبا الغربية لهو أصعب بكثير من النضال ضد مناشفتنا الذين يمثلون عنصراً إجتماعياً وسياسيا متجانسا تماما. ينبغي شن هذا لنضال دون هوادة، وينبغي السير به حتماً، كما فعلنا نحن، حتى يفضح بصورة تامة ويطرد من النقابات جميع زعماء الإنتهازية والاشتراكية-الشوفينية الذين لا يرجى إصلاحهم.إذ يستحيل الظفر بالسلطة السياسية (كما لا ينبغي الإقدام على أخذ السلطة) طالما لم يتم السير بهذا النضال إلى حد معين، علما بأن هذا «الحد المعين» ليس واحداً في مختلف البلدان والظروف وبأن تشخيص هذا الحد بشكل صائب لا يقدر عليه إلاّ قادة سياسيون للبروليتاريا في كل بلد على حدة متميزون بعمق التفكير وسعة الإطلاع والخبرة. (وبالمناسبة نقول أن مقياس النجاح في هذا النضال عندنا كان انتخابات الجمعية التأسيسية في نوفمبر سنة ١٩١٧، عقب الانقلاب البروليتاري في ٢٥ أكتوبر سنة ١٩١٧ ببضعة أيام. فقد هزم المناشفة في هذه الانتخابات هزيمة ماحقة، إذ حصلوا على ٧٠٠ ألف صوت أو مليون و٤٠٠ ألف صوت مع الأصوات التي جاءتهم من مناطق ما وراء القفقاس وذلك مقابل ٩ ملايين صوت أحرزها البلاشفة (راجع مقالتي «انتخاب الجمعية التأسيسية وديكتاتورية البروليتاريا» المنشور في العدد ٧-٨ من مجلة «الأممية الشيوعية»).

ولكن النضال ضد «الاريستوقراطية العمالية» إنما نشنه باسم جماهير العمال ومن أجل استمالتها إلى جانبنا، والنضال ضد الزعماء الانتهازيين والاشتراكيين-الشوفينيين إنما نشنه بغية استمالة الطبقة العاملة إلى جانبنا. فمن الحماقة نسيان هذه الحقيقة البسيطة والواضحة للغاية بحد ذاتها. وهذه الحماقة بالذات يرتكبها الشيوعيون الألمان «اليساريون» الذين يخلصون، منطلقين من رجعية القمة المترئسة في النقابات وعدائها للثورة، إلى القول… بالخروج من النقابات!! وبالامتناع عن العمل فيها!! وبإنشاء أشكال جديدة، مصطنعة لتنظيم العمال!! وههذه حماقة لا تغتفر إذ تضارع أعظم خدمة يمكن أن يقدمها الشيوعيون للبرجوازية. لأن مناشفتنا، مثلهم مثل جميع زعماء النقابات الانتهازيين والاشتراكيين-الشوفينيين والكاوتسكيين ليسوا سوى «عملاء البرجوازية في حركة العمال» (كما كنا نقول دائما بحق المناشفة) أو «وكلاء طبقة الرأسماليين بين العمال» (labor lieutenants of the capitalist class) حسب التعبير الرائع والصائب للغاية الذي صاغه أتباع دانيال دي ليون في أمريكا. إن الامتناع عن العمل في داخل النقابات الرجعية يعني ترك جماهير العمال التي تنطوى لحد كاف، أو المتأخرة، تحت تأثير الزعماء الرجعيين، وعملاء البرجوازية والأريستوقراطيين من العمال، أو «العمال الذين تبرجزوا» (راجعوا رسالة إنجلس إلى ماركس سنة ١٨٥٨ حول العمال الإنجليز).

إن هذه «النظرية» السخيفة بالذات، نظرية عدم اشتراك الشيوعيين في النقابات الرجعية تظهر بمنتهى الجلاء مدى طيش هؤلاء الشيوعيين «اليساريين» في مسألة التأثير على «الجماهير»، ومدى إفراطهم في الزعيق بصدد «الجماهير». فلكيما تتوفر امكانية مساعدة «الجماهير» واكتساب عطف «الجماهير» ومؤازرتها وتأييدها، ينبغي عدم الخوف من الصعوبات، ينبغي عدم الخوف من المكائد والمماحكات والإهانات والملاحقات من جانب «الزعماء» (الذين هم في أغلب الحالات، لكونهم انتهازيين واشتراكيين-شوفينيين، على ارتباط مباشر أو غير مباشر بالبرجوازية وبالشرطة) وينبغي العمل، إلزاماً، حيث يوجد الجمهور. تنبغي المقدرة على بذل أية تضحيات، وعلى تذليل أعظم العوائق لأجل القيام بصورة منظمة وبعناد وصلابة وأناة، بالدعاية والتحريض في تلك المؤسسات والجمعيات والاتحادات بالذات، حتى وان كانت اشدها رجعية، حيث توجد الجماهير البروليتارية أو شبه البروليتارية. أمّا النقابات وجمعيات العمال التعاونية (وهذه الأخيرة أحيانا، على الأقل) فهي تلك المنظمات بالذات التي توجد فيها الجماهير. ففي إنجلترا، حسب إحصاءات الجريدة السويدية («Folkets Dagblad Politiken» الصادرة في مارس ١٩٢٠)، ازداد عدد أعضاء النقابات، ابتداء من أواخر سنة ١٩١٧ حتى أواخر سنة ١٩١٨، من ٥ ملايين ونصف المليون إلى ٦ ملايين و٦٠٠ ألف عضو، أي أنه ازداد بنسبة ١٩٪. وفي أواخر سنة ١٩١٩، بلغ عددهم، حسب التقديرات زهاء ٧ ملايين ونصف المليون نسمة. لا توجد عندي الآن الأرقام المتعلقة بفرنسا وألمانيا، ولكن الحقائق التي لا جدال فيها أبداً والمعروفة للجميع تشهد على تزايد عدد أعضاء النقابات تزايداً كبيراً في هذين البلدين أيضاً.

وهذه الحقائق تدل بجلاء ما بعده جلاء على ما تؤكده كذلك ألوف الدلائل الأخرى، أي على نمو الوعي والرغبة في التنظيم عند الجماهير البروليتارية بالذات، عند «الفئات الدنيا» وبين الفئات المتأخرة. إن ملايين العمال في إنجلترا وفرنسا وألمانيا ينتقلون لأول مرة من حالة عدم الانتظام التام إلى الشكل البدائي للتنظيم، الشكل الأدنى والأبسط، والأسهل منالاً (بالنسبة لأولئك الذين لا يزالون متشبعين بأوهام الديموقراطية البرجوازية) أي إلى النقابات بالذات، بينما الشيوعيون اليساريون الثوريون، ولكن الأغنياء، يقفون عن كثب زاعقين: «الجماهير»! «الجماهير»! إلاّ أنهم يمتنعون عن العمل داخل النقابات!! يمتنعون بذريعة «رجعيتها»!! ويخترعون «اتحاداً عمالياً»، قشيب نقي، خال من الأوهام الديموقراطية البرجوازية، طاهر الذيل من آثام ضيق الأفق الحرفي والمهني الصرف، ويزعمون أنه سيكون (سيكون!) واسعاً، والاشتراك فيه لا يتطلب سوى (سوى!) «الاعتراف بالنظام السوفييتي والديكتاتورية» (راجع الفقرة المقتبسة أعلاه)!!

لا يمكن تصور طيش أكبر، وضرر أكبر من ذلك يلحقه بالثورة الثوريون «اليساريون»! فلو أردنا نحن الآن في روسيا بعد سنتين ونصف من الانتصارات التي لم يسبقها مثيل على برجوازية روسيا ودول الوفاق، أن نجعل «الاعتراف بالديكتاتورية» شرطاً للانتساب إلى النقابات، لارتكبنا حماقة ولقوضنا تأثيرنا على الجماهير، ولساعدنا المناشفة. ذلك لأن كل مهمة الشيوعيين هي أن يكونوا قادرين على إقناع المتخلفين، قادرين على العمل بينهم، لا أن يضعوا بينهم وبين هؤلاء سياجاً من الشعارات الصبيانية «اليسارية» المختلقة.

ما من شك في أن السادة غومبيرس وجوهو وليغين وأضرابهم ممتنون غاية الامتنان من أولئك الثوريين «اليساريين» الذين يحذون حذو المعارضة الألمانية «المبدئية» (رحماك اللهم من هذه «المبدئية»!) أو بعض الثوريين من عداد «عمال العالم الصناعيين» الأمريكيين ويعظون بالخروج من النقابات الرجعية ورفض العمل فيها. وما من شك في أن السادة «زعماء» الإنتهازية سيلجأون إلى شتى مكائد الديبلوماسية البرجوازية وسيستفيدون من مساعدة الحكومات البرجوازية والقسس والشرطة والمحاكم لكيما يمنعوا الشيوعيين من النقابات، ويزيحوهم منها بشتى الوسائل، ويجعلوا عملهم داخل النقابات غير مريح جهد الإمكان، ويهينوهم ويتحرشوا بهم ويلاحقوهم. ينبغي أن نكون قادرين على مجابهة كل ذلك، وأن نتقبل جميع وشتى التضحيات، وعند اللزوم، أن نلجأ حتى إلى شتى الأحابيل والحيل والطرق السرية والصمت وإخفاء الحقيقة، وذلك من أجل التسرب إلى النقابات، والبقاء فيها، والقيام بالنشاط الشيوعي هناك الزاماً ومهما كلف الأمر. لم تكن عندنا في عهد القيصرية قبل سنة ١٩٠٥ أية «إمكانيات علنية»، ولكن عندما عمد الدركي زوباتوف إلى تنظيم اجتماعات وجمعيات عمالية موغلة في الرجعية من أجل اقتناص الثوريين ومن أجل مكافحتهم، أرسلنا نحن إلى هذه الاجتماعات وإلى هذه الجمعيات أعضاء حزبنا (وأنا شخصيا أتذكر من جملتهم الرفيق بابوشكين، العامل المشهور في بطرسبورج، الذي أعدمه الجنرالات القيصريون في سنة ١٩٠٦ رميا بالرصاص) فعملوا على إقامة الروابط مع الجماهير، منتهزين كل فرصة سانحة للقيام بدعايتهم وانتشال العمال من تأثير رجال زوباتوف[١]. صحيح أن تحقيق ذلك في أوروبا الغربية المتشعبة بالأوهام المتأصلة، أوهام العمل في الظروف العلنية والدستورية والديموقراطية البرجوازية، هو أمر أصعب بكثير. ولكن هذا العمل يمكن ويجب تحقيقه بانتظام واستمرار.

برأيي الشخصي، يتوجب على اللجنة التنفيذية للأممية الثالثة أن تندد صراحة وأن تقترح على المؤتمر القادم للأممية الشيوعية أن يندد سواء بسياسة عدم الاشتراك في النقابات الرجعية بوجه عام (مع الشرح المفصل لكون عدم الاشتراك هذا طائشاً ومضراً جداً بقضية الثورة البروليتارية) أو، بوجه خاص، بمسلك بعض أعضاء الحزب الشيوعي الهولندي الذين أيدوا هذه السياسة الخاطئة أمّا مباشرة وعلناً وأمّا بشكل مباشر ومستور وجزئي. فلا بد للأممية الثالثة من أن تحقق القطيعة مع تكتيك الأممية الثانية وأن لا تتهرب من المسائل الموجعة وأن لا تطمسها، بل أن تطرحها بكل حزم. لقد قلنا الحقيقة بكاملها ودون مداورة «للمستقلين» (الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني المستقل)، وينبغي أن نقول الحقيقة كلها ودون مداراة للشيوعيين «اليساريين» أيضاً.





[١] إن غومبرس وهيندرسون وجوهو وليغين وشركاهم ليسوا سوى أضراب زوباتوف، ولا يختلفون عنه إلاّ بأزيائهم الأوروبية وبالأساليب القشيبة والمتدنية والمشذبة والمطلية بطلاء ديموقراطي في تنفيذ سياستهم الدنيئة.
        

مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية

الفصل السابع

هل يجب الاشتراك في البرلمانات البرجوازية؟


يجيب الشيوعيون «اليساريون» الألمان بمنتهى الاستخفاف، وبنزق ما بعده نزق، على هذا السؤال جواباً سلبياً. فما هي حججهم؟ لقد جاء في الفقرة المقتبسة المذكورة أعلاه ما يلي:

«… بجب بكل حزم رفض أية عودة إلى طريق النضال البرلمانية التي ولى عهدها تاريخياً وسياسياً…».

إن هذا الزعم متعجرف إلى حد يدعو للضحك، كما أنه خاطئ بشكل بيّن. «العودة» إلى البرلمانية! هل قامت جمهورية سوفييتية في ألمانيا يا ترى؟ كلا، حسبما يبدو! فكيف إذن يمكن الحديث عن «العودة»؟ أليس ذلك مجرد عبارة جوفاء؟

البرلمانية قد «ولى عهدها تاريخياً». إن هذا صحيح من ناحية الدعاية. ولكن كل واحد يعلم أنه شتان ما بين هذا وبين التغلب على البرلمانية عملياً. فمنذ عشرات السنين كان من الممكن، ومع أتم الحق، أن يقال أن الرأسمالية «قد ولى عهدها تاريخياً» ولكن هذا لا ينفي قط ضرورة شن نضال مديد جداً وعنيد للغاية في صعيد الرأسمالية. إن البرلمانية قد «ولى عهدها تاريخيا» من وجهة نظر التاريخ العالمي، أي بمعنى أن عهد البرلمانية البرجوازية قد انطوى، وأن عهد ديكتاتورية البروليتاريا قد بدأ. هذا ما لا جدال فيه. بيد أن الحساب على الصعيد التاريخي العالمي يجري بعشرات السنين. فإن عشرة سنوات أو عشرين سنة أسرع أو أبطأ –إن هذا من وجهة نظر المقاييس التاريخية العالمية أمر لا شأن له، كما أنه، من وجهة نظر التاريخ العالمي، شيء زهيد لا يمكن حسابه حتى بصورة تقريبية. ولهذا السبب بالذات يكون الاستناد إلى المقياس التاريخي العالمي فيما يخص مسألة السياسة العملية خطأ نظرياً في منتهى الفداحة.

هل البرلمانية قد «ولى عهدها سياسياً»؟ هذه قضية أخرى. فلو كان ذلك صحيحاً لكان موقف «اليساريين» وطيداً. غير أن هذا ما ينبغي إثباته بتحليل جدي، بينما «اليساريون» لا يعرفون حتى كيف يتناولون هذا التحليل. ففي «موضوعات بصدد البرلمانية»، المنشورة في العدد الأول من «نشرة مكتب أمستردام الوقت للأممية الشيوعية» ("Bulletin of the Provisional Bureau in Amsterdam of the Communist International", February, 1920) والمعبرة بوضوح عن النزوع اليساري الهولندي أو الهولندي اليساري، نجد كذلك، كما سنرى، تحليلا في غاية الرداءة.

أولاً، إن «اليساريين» الألمان، كما هو معروف، قد اعتبروا، حتى منذ يناير ١٩١٩، أن البرلمانية قد «ولى عهدها سياسياً»، وذلك بالرغم من رأي قائدين سياسيين مرموقين كروزا لوكسمبورغ وكارل ليبكنخت. ومعروف أن «اليساريين» قد أخطأوا. وهذا وحده ما يقضي رأسا وبشكل جذري على الموضوعة الزاعمة بأن البرلمانية قد «ولى عهدها سياسياً». وأن «اليساريين» ملزمون بأن يعللوا لماذا لم تعد غلطتهم البينة السابقة غلطة في الوقت الحاضر. إنهم لا يأتون حتى بشبه تعليل ولا يستطيعون الإتيان به. إن موقف الحزب السياسي من أخطائه هو واحد من أهم وأصدق الأدلة على جدية الحزب وتنفيذه في الواقع واجباته إزاء طبقته والجماهير الكادحة. إن الاعتراف جهاراً بالخطأ، والكشف عن علله، وتحليل الظروف الذي أدى إلى ارتكابه، والبحث باهتمام في وسائل إصلاح الخطأ – إنما هو علامة الحزب الجدي، إنما هو تنفيذه لواجباته، إنما هو تربية وتعليم الطبقة ومن ثم الجماهير. فإن «اليساريين» في ألمانيا (وفي هولنده)، إذ لا ينفذون واجبهم هذا ولا يبذلون منتهى الانتباه والعناية والحيطة في فحص خطئهم البين، ويثبتون بذلك أنهم ليسوا حزب الطبقة، بل حلقة، وليسو حزب الجماهير، بل زمرة من المثقفين والعمال القلائل ممن يتخلقون بأسوأ صفات المثقفين.

ثانيا، في ذات الكراس العائد لفرقة «يساريي» فرانكفورت، والذي اقتبسنا نحن منه أعلاه فقرة مسهبة نقرأ ما يلي:

«… إن الملايين من العمال الذين لا يزالون يتبعون سياسة الوسط» (حزب «الوسط» الكاتوليكي) «معادون للثورة. وبروليتاريا الأرياف تقدم فيالق من القوات المعادية للثورة» (ص٣ من الكراس المذكور).

إن هذا القول، حسب كل الدلائل، مفرط في التعميم والمبالغة. لكن الحقيقة الأساسية الواردة هنا لا جدال فيها، واعتراف «اليساريين» بها هو شهادة بينة للغاية على خطئهم. إذ كيف يمكن أن يزعموا أن «البرلمانية قد ولى عهدها سياسياً»، إذا كانت «الملايين» و«الفيالق» من البروليتاريين لا تزال تؤيد البرلمانية بوجه عام، وليس هذا وحسب، بل أنها أيضاً «معادية للثورة» مباشرة!؟ واضح أن البرلمانية في ألمانيا لما يول عهدها سياسياً. وواضح أن «اليساريين» في ألمانيا قد اعتبروا رغبتهم وموقفهم السياسي والفكري واقعاً موضوعيا. وهذه هي أخطر غلطة يرتكبها الثوريون. ففي روسيا حيث ظلم القيصرية البهيمي والوحشي للغاية خلال مدة طويلة جداً وفي أشكال متنوعة جداً أوجد ثوريين من مختلف الاتجاهات، ثوريين مدهشين من حيث الإخلاص والحماسة والبطولة وقوة الإرادة، في روسيا شاهدنا نحن عن كثب غلطة الثوريين هذه، وتفحصناها بانتباه كبير، ونعرفها جيداً جداً ولذلك فهي واضحة لنا كل الوضوح عندما يرتكبها الآخرون. إن البرلمانية قد «ولى عهدها سياسياً»، طبعاً، بنظر الشيوعيين في ألمانيا، ولكن، القضية هي بالضبط في أن لا نعتبر ما ولى بالنسبة لنا، قد ولى عهده كذلك بالنسبة للطبقة وبالنسبة للجماهير. إننا نرى هنا أيضاً أن «اليساريين» لا يستطيعون الحكم على الأشياء كما لا يستطيعون أن يسلكوا سلوك حزب الطبقة، حزب الجماهير. عليكم الاّ تهبطوا إلى مستوى الجماهير، إلى مستوى الفئات المتأخرة من الطبقة. وهذا ما لا جدال فيه. عليكم أن تفضوا إليها بالحقيقة المرة. عليكم أن تسموا أوهامها الديموقراطية البرجوازية والبرلمانية أوهاماً. وعليكم مع ذلك أن تتابعوا على نحو سليم الحالة الحقيقية لوعي واستعداد الطبقة كلها بالذات (لا طليعتها الشيوعية وحسب)، الجماهير الكادحة جميعها بالذات (لا أفرادها المتقدمين وحدهم).

وإذا كانت مجرد أقلية لا بأس بتعدادها، ناهيك عن «الملايين» و«الفيالق»، من العمال الصناعيين تسير في أثر القسس الكاثوليك، ومن العمال الزراعيين تتبع الملاكين العقاريين والكولاك (Grossbauern)، ينجم من هذا دون شك، أن البرلمانية في ألمانيا لما يول عهدها سياسياً، وأن الاشتراك في الانتخابات البرلمانية وفي النضال من على منبر البرلمان أمر لا بد منه لحزب البروليتاريا الثورية وكذلك بالضبط لأغراض تربية الفئات المتأخرة من طبقته هو، وبالضبط لأغراض إيقاظ وتنوير جماهير القرويين المبلدة والمظلومة والجاهلة. وما دمتم عاجزين عن حل البرلمان البرجوازي وسائر أنواع المؤسسات الرجعية، أياً كانت، فلا بد لكم أن تعملوا في داخلها، بالضبط لأنه لا يزال هناك عمال ممن خدعهم القسس وتبلدو في بيئة الأرياف النائية، وإلا فقد تصبحون مجرد مهذارين.

ثالثا، يسهب الشيوعيون «اليساريون» في الأقوال الطيبة بحقنا نحن البلاشفة. وبودي أحيانا أن أقول: حبذا لو قللتم من كيل المديح لنا، وأكثرتم من التمعن في تكتيك البلاشفة ومن التعرف به! لقد اشتركنا نحن في انتخابات البرلمان البورجوازي الروسي – الجمعية التأسيسية – في سبتمبر-نوفمبر سنة ١٩١٧. فهل كان تكتيكنا صحيحاً أم لا؟ فإذا لم يكن صحيحاً، ينبغي أن يقولوا ذلك بوضوح وتثبتوه، فذلك أمر ضروري من أجل وضع تكتيك صحيح من قبل الشيوعية العالمية. وإذا كان صحيحاً، فينبغي أن تستنتجوا من ذلك عبراً معينة. بديهي أنه لا يمكن أبداً اعتبار الظروف في روسيا والظروف في أوروبا الغربية متساوية. ولكن فيما يتعلق بالمسألة الخاصة، مسألة ماذا يعني مفهوم أن «البرلمانية قد ولى عهدها سياسياً» لا بد من مراعاة تجربتنا مراعاة دقيقة، إذ أن مثل هذه المفاهيم تتحول بسهولة كبيرة جداً، في حال عدم مراعاة التجربة الملموسة، إلى عبارات جوفاء. أفلم يكن من حقنا، نحن البلاشفة الروس، في سبتمبر-نوفمبر سنة ١٩١٧، أكثر من أي من الشيوعيين الغربيين، أن نعتبر البرلمانية في روسيا قد ولى عهدها سياسياً؟ بالطبع كان ذلك من حقنا، لأن القضية ليست في كون البرلمانات البرجوازية موجودة من أمد بعيد أو قريب، بل في مقدار استعداد الجماهير الغفيرة الكادحة (استعداداً فكريا وسياسياً وعملياً) لقبول النظام السوفييتي وحل (أو السماح بحل) البرلمان البرجوازي الديموقراطي. أمّا أن الطبقة العاملة في المدن والجنود والفلاحين في روسيا في سبتمبر-نوفمبر سنة ١٩١٧ كانوا بحكم بعض الظروف الخاصة مهيئين بصورة ممتازة لقبول النظام السوفييتي وحل أكثر البرلمانات البرجوازية ديموقراطية، فهذا واقع لا جلل فيه مطلقاً وحقيقة تاريخية مقررة تماماً. ومع ذلك لم يقاطع البلاشفة الجمعية التأسيسية، بل اشتركوا في الانتخابات، سواء قبل أو بعد ظفر البروليتاريا بالسلطة السياسية. وأما أن هذه الانتخابات قد أعطت نتائج سياسية قيمة للغاية (ومفيدة للبروليتاريا فائدة فصوى)، فهذا ما أجرؤ على الأمل بأني قد أثبته في المقالة المذكورة أعلاه، والتي تحلل المعطيات المتعلقة بانتخابات الجمعية التأسيسية في روسيا تحليلاً وافياً.

الاستنتاج من ذلك لا جدال فيه إطلاقا: فلقد ثبت أن الاشتراك في البرلمان البرجوازي الديموقراطي، حتى لبضعة أسابيع قبل انتصار الجمهورية السوفييتية، وحتى بعد هذا الانتصار، لا يضر البروليتاريا الثورية، بل يسهل لها إمكانية أن تثبت للجماهير المتأخرة لماذا تستوجب هذه البرلمانات الحل، وهو يسهل النجاح في حلها، ويسهل «إزالة» البرلمانية البرجوازية «سياسيا». إن عدم أخذ هذه التجربة بعين الاعتبار، والادعاء في ذات الوقت بالانتماء إلى الأممية الشيوعية، التي ينبغيس أن تضع تكتيكها أممياً (لا كتكتيك وطني ضيق وذي جانب واحد، بل بالضبط كتكتيك أممي)، يعني ارتكاب أفحش غلطة، والتراجع عن الأممية فعلاً، مع الاعتراف بها قولاً.

والآن فلنلق نظرة على الحجج «اليسارية الهولندية» تأييداً لعدم الاشتراك في البرلمانات. إليكم ترجمة (عن الانجليزية) لأهم موضوعة من موضوعات «الهولندية» المذكورة أعلاه، ونعني بها الموضوعة الرابعة:

«عندما يكون تحطيم نظام الانتاج الرأسمالي قد تم ويكون المجتمع في حالة الثورة، يفقد النشاط البرلماني بالتدريج أهميته بالقياس إلى نشاط الجماهير نفسها. وعندما يصبح البرلمان، في مثل هذه الظروف، مركز العداء للثورة وهيئته، بينما الطبقة العاملة تصنع، من الجهة الأخرى، أداة سيطرتها بشكل السوفييتات، قد يكون حتى من الضروري الامتناع عن كل اشتراك أيا كان في النشاط البرلماني».

إن الجملة الأولى غير صحيحة بشكل بين، لأن أعمال الجماهير، كالإضراب الكبير مثلا، هي أهم من النشاط البرلماني على الدوام، وليس فقط في زمن الثورة أو في حالة توفر الوضع الثوري. إن هذه الحجة البينة بطلانها، وغير الصحيحة من الوجهة التاريخية والسياسية، تبين بوضوح خاص أن واضعي هذه الموضوعات لا تأبهون أبداً لا للتجربة الأوروبية العامة (الفرنسية قبيل ثورتي سنتي ١٨٤٨ و١٨٧٠، والألمانية لسنوات ١٨٧٨-١٨٩٠ وغير ذلك) ولا للتجربة الروسية (راجع ما ذكر أعلاه) فيما يخص أهمية الجمع بين النضال العلني والسري. وهذه المسألة على جانب هائل من الأهمية، سواء من الوجهة العامة أو الخاصة، لأنه يقترب بسرعة في جميع البلدان المتمدنة والمتقدمة وقت يصبح فيه مثل هذا الجمع (وقد أصبح جزئياً) أكثر فأكثر أمراً لا بد منه لحزب البروليتاريا الثورية، وذلك بحكم اختمار واقتراب الحرب الأهلية بين البروليتاريا والبرجوازية، وبحكم الملاحقات القاسية التي يتعرض لها الشيوعيون من قبل الحكومات الجمهورية والحكومات البرجوازية بوجه عام من أبلغ الشواهد على ذلك) الخ.. وهذه المسألة الهامة للغاية لم يدركها بتاتاً الهولنديون واليساريون جميعهم.

والجملة الثانية هي، أولاً، غير صحيحة تاريخياً. فلقد اشتركنا نحن البلاشفة في أشد البرلمانات عداء للثورة، وقد برهنت التجربة أن مثل هذا الاشتراك لم يكن مفيدا وحسب، بل كان ضرورياً أيضاً لحزب البروليتاريا الثورية، بالضبط بعد الثورة البرجوازية الأولى في روسيا (١٩٠٥) من أجل التحضير للثورة البرجوازية الثانية (فبراير ١٩١٧) وبعد ذلك للثورة الاشتراكية (اكتوبر ١٩١٧). ثانيا، إن هذه الجملة غير منطقية لحد مدهش. فمن واقع أن البرلمان يصبح هيئة العداء للثورة و«مركزه» (ونذكر عرضا أن البرلمان لم يكن في الواقع قط «مركزا» ولا يمكنه أن يكونه)، وأن العمال ينشئون أداة سلطتهم بشكل السوفييتات، ينجم أن العمال ينبغي أن يستعدوا، فكرياً وسياسياً وفنياً، لنضال السوفييتات ضد البرلمان، ولحل البرلمان من جانب السوفييتات. غير أنه لا ينجم من هذا أبداً أن وجود معارضة سوفييتية داخل البرلمان المعادي للثورة يعيق مثل هذا الحل أو أنه لا يسهله. إننا لم نلحظ ولا مرة، أثناء نضالنا المظفر ضد دينيكين وكولتشاك، أن وجود معارضة سوفييتية بروليتارية في معسكرهما كان أمراً لا شأن له في انتصاراتنا. إننا نعرف خير معرفة أن وجود المعارضة السوفييتية، سواء منها المعارضة البلشفية الراسخة أو معارضة الاشتراكيين-الثوريين اليساريين المتقلقلة، في داخل الجمعية التأسيسية المعادية للثورة، المقرر حلها، لم يعسر علينا تحقيق حل هذه الجمعية التأسيسية في ٥ يناير سنة ١٩١٨ بل سهله. لقد التبس الأمر تماماً على واضعي هذه الموضوعة وغابت عن بالهم تجربة سلسلة كاملة من الثورات إن لم نقل جميعها، التجربة التي تشهد بأن من النافع على الخصوص في زمن الثورة الجمع بين العمل الجماهيري خارج البرلمان الرجعي وبين المعارضة المتعاطفة في داخل هذا البرلمان مع الثورة (والأفضل من ذلك: المؤيدة للثورة تأييداً مباشراً). إن الهولنديين و«اليساريين» عموماً يتناولون هذا الأمر كثوريين عقائديين لم يشاركوا قط في ثورة حقيقية أو لم يتمنعوا في تاريخ الثورات، أو يعتقدون بسذاجة أن «الرفض» الذاتي لمؤسسة رجعية ما يعني تحطيمها فعلاً بتضافر مفاعيل جملة كاملة من العوامل الموضوعية. إن أوثق وسيلة للحط من فكرة سياسية جديدة (وليست السياسة وحدها) والاضرار بها، هي السير بها إلى حد السخافة وذلك باسم الدفاع عنها. لأن أية حقيقة، إذا جعلوها «مفرطة» (كما قال ديتزكين الأب) وإذا غالوا فيها إلى حد السخافة، بل وأنها تنقلب، لا مناص، والحالة هذه، إلى سخافة. ومثل هذه الخدمة المعكوسة يقدمها اليساريون الهولنديون والألمان إلى الحقيقة الجديدة بشأن أفضلية السلطة السوفييتية بالنسبة للبرلمانات البرجوازية الديموقراطية. بديهي أن كل من يريد أن يردد الأقوال القديمة ويزعم، بوجه عام، مهما كانت الظروف، يكون على ضلال. ‘ني لا أستطيع أن أحاول هنا صياغة الظروف التي تكون فيها مقاطعة البرلمان نافعة، لأن هدف هذه المقالة أكثر تواضعاً، وهو مراعاة التجربة الروسية بالارتباط ببعض المسائل الملحة للتكتيك الشيوعي الأممي. إن التجربة الروسية أعطتنا مثالاً موفقا وصحيحاً لمقاطعة البلاشفة للبرلمان (سنة ١٩٠٥) وآخر خطئاً (سنة ١٩٠٦). وعند تحليل المثال الأول نرى أنه حالف النجاح الجهود الرامية إلى منع عقد برلمان رجعي من قبل السلطة الرجعية، وذلك في ظروف جرى فيها تصاعد نشاط الجماهير الثوري خارج البرلمان (وخاصة الإضرابات) بسرعة خاطفة، ولم يكن فيها باستطاعة أية فئة من فئات البروليتاريا والفلاحين أن تؤيد السلطة الرجعية أي تأييد مهما كان، وكانت البروليتاريا الثورية تؤمن لنفسها التأثير على الجماهير الواسعة المتأخرة بفضل النضال الاضرابي والحركة الزراعية. وجلي كل الجلاء إن هذه التجربة ليست قابلة للتطبيق على الظروف الأوروبية الراهنة. وجلي كذلك كل الجلاء، على أساس الحجج المذكورة أعلاه، أن دفاع الهولنديين و«اليساريين»، ولو دفاعاً مشروطاً، عن فكرة رفض الاشتراك في البرلمانات، خطئ من الأساس وضار بقضية البروليتاريا الثورية.

لقد إذا البرلمان في أوروبا الغربية وأمريكا ممقوتاً للغاية لدى الثوريين الطليعيين من الطبقة العاملة. هذا أمر لا جدال فيه. وهو مفهوم تماماً، إذ من العسير على المرء أن يتصور ما هو أكثر خسة وحطة وخيانة من سلوك معظم النواب الاشتراكيين والاشتراكيين-الديموقراطيين في البرلمان إبان وبعد الحرب. ولكن من السخافة، بل ومن الجريمة تبني هذه الروحية لدى البت بمسألة كيفية مكافحة ما هو شر بنظر الجميع. يمكن القول أن الروحية الثورية هي الآن في كثير من بلدان أوروبا الغربية «بدعة» أو قل «نادرة» كانوا من أمد جد بعيد ينتظرونها عبثاً وبفارغ الصبر، ولعل هذا هو السبب في أنهم يستسلمون لهذه الروحية بمثل هذه السهولة. صحيح أنه بدون هذه الروحية، لا يمكن تطبيق التكتيك الثوري في العمل؛ إلاّ أننا في روسيا قد اقتنعنا على أساس تجربة مديدة للغاية، وشاقة، ودامية، بحقيقة أنه يستحيل بناء تكتيك ثوري على الروحية الثورية وحدها. يجب أن يقوم التكتيك على حساب دقيق وموضوعي تماماً لجميع القوى الطبقية في الدولة المعنية (والدول المحيطة بها، وجميع الدول في المجال العالمي) وكذلك على مراعاة تجربة الحركة الثورية. ومن السهل جداً على المرء أن يظهر «ثوريته» عن طريق الشتائم وحدها يوجهها إلى الإنتهازية البرلمانية، أو فقط عن طريق نفيالإشتراك في البرلمانات، ولكن لهذا السبب بالذات، أي لكون هذا الأمر سهلاً للغاية، ليس هذا حلاً للمهمة الصعبة، بل والبالغة الصعوبة. إن إيجاد كتلة برلمانية ثورية حقاً في البرلمانات الأوروبية، لهو طبعاً أمر أصعب بكثير منه في روسيا. ولكن هذا ليس لإلاً تعبيراً جزئياً عن الحقيقة العامة القائلة بأنه كان من السهل لروسيا في ظروف سنة ١٩١٧ الملموسة، الصيلة تاريخياً منتهى الأصالة، أن تبدأ الثورة الاشتراكية، بينما الإستمرار بالثورة والسير بها حتى النهاية سيكونان أصعب على روسيا منهما على البلدان الأوروبية. لقد تسنى لي في بداية سنة ١٩١٧ أن أشير إلى هذا الأمر، وتجربتنا خلال سنتين مضتا بعد ذلك قد أكدت صحة هذا الرأي كل التأكيد. ومثل هذه الظروف الخاصة، وهي ١) إمكانية الحمع بين الانقلاب السوفييني وبين إنهاء الحرب الامبريالية التي انتهت بفضله والتي كانت قد أنهكت العمال والفلاحين لدرجة لا تصدق؛ ٢) إمكانية الاستفادة، بعض الوقت، من الصراع المميت بين مجموعتي الضواري الإمبرياليين ذوي الجبروت العالمي التين لم يكن باستطاعتهما أن تتحدا ضد العدو السوفييتي، ٣) إمكانية تحمل حرب أهلية طويلة نسبياً، ومن أسباب ذلك أبعاد البلد الهائلة ورداءة وسائط النقل، ٤) توفر الحركة الثورية البرجوازية الديموقراطية في أوساط الفلاحين العميقة إلى حد أن حزب البروليتاريا أخذ المطالب الثورية عن حزب الفلاحين (الحزب الاشتراكي-الثوري الذي كان في أكثريته على أشد العداء للبلشفية)، وحققها فورا بفضل ظفر البروليتاريا بالسلطة السياسية؛ – إن مثل هذه الظروف الخاصة غير متوفرة الآن في أوروبا الغربية، وليس تكرارها أو توفر ظروف مشابهة لها بالأمر اليسير أبداً. ولهذا السبب، بالإضافة إلى جملة أسباب أخرى، يكون أمر بدء الثورة الاشتراكية في أوروبا الغربية أصعب منه عندنا. وإن محاولة «تحاشي» هذه الصعوبة بواسطة «النط» من فوق مشقة الاستفادة من البرلمانات الرجعية للأغراض الثورية، هي صبيانية صرف. أفتريدون أن تنشوا مجتمعاً جديداً؟ وأنتم تخشون الصعوبات لدى تشكيل كتلة برلمانية حسنة، مؤلفة من شيوعيين ذوي إيمان وإخلاص وبطولة، في برلمان رجعي! أوليست هذه صبيانية؟ فلئن استطاع كارل ليبكنخت في ألمانيا وز. هوغلوند في السويد أن يضربا، حتى بدون تأييد جماهيري من أسفل، أمثلة للاستفادة من البرلمانيات الرجعية استفادة ثورية حقاً، فكيف يمكن لحزب جماهيري ثوري ينمو بسرعة، وفي ظروف ما بعد الحرب، ظروف خيبة الجماهير وحنقها، ان يعجز عن تشكيل كتلته الشيوعية في برلمانات أسوأ؟! وبما أن جماهير العمال المتأخرة ولدرجة أكبر – جماهير الفلاحين الصغار متشعبة في أوروبا الغربية بأوهام الديموقراطية البرجوازية والبرلمانية أكثر بكثير منها في روسيا، لهذا السبب بالذات لا يمكن للشيوعيين أن يشنوا (بل يجب عليهم أن لا يشنوا) إلاّ من داخل مؤسسات كالبرلمانات البرجوازية نضالاً مديداً عنيداً لا يتوقف أمام أية صعوبات في سبيل فضح هذه الأوهام وتبديدهما وتذليلها.

يشكو «اليساريون» الألمان من «زعماء» حزبهم الطالحين، ويستسلمون لليأس، وينتهي بهم الأمر إلى شيء مضحك، إلى «نفي» «الزعماء». ولكن في الظروف التي يتأتى فيها غالباً إخفاء «الزعماء»، يكون إيجاد «الزعماء» الصالحين الموثوق بهم والمجربين والمتنفذين أمراً على غاية من الصعوبة، والتغلب على هذه المصاعب مستحيل بدون الجمع بين النشاط العلني والسري، وبدون أن يُمتحن «الزعماء»، فيما يمتحنون، كذلك بمحك المنصة البرلمانية. إن الاعتقاد، بل وأقسى الانتقاد الذي لا يعرف الهوادة والمسالمة أبداً، ينبغي أن يوجه، لا ضد البرلمانية والنشاط البرلماني، بل ضد أولئك الزعماء الذين لا يستطيعون، وبالأحرى ضد أولئك الذين لا يريدون، أن يستفيدوا من الانتخابات البرلمانية ومن منبر البرلمان بالطريقة الثورية، بالطريقة الشيوعية. ومثل هذا الإنتقاد وحده، على أن يقترن، طبعاً، بطرد الزعماء غير الصالحين والاستعاضة عنهم بآخرين صالحين، سيكون عملاً ثورياً نافعاً ومثيراً يربي في الوقت نفسه «الزعماء» ليكونوا جديرين بالطبقة العاملة والجماهير الكادحة، وكذلك الجماهير لتتعلم فهم الوضع السياسي بصورة صحيحة وإدراك الواجبات التي تنشأ عن ذلك الوضع، تلك الواجبات التي كثيراً ما تكون معقدة ومتشابكة[١].





[١] لقد حصلت لي فرصة قليلة جدا للتعرف بالشيوعية «اليسارية» في إيطاليا. غير أنه لا شك في أن الرفيق بورديغا وفريقه المسمى «الشيوعيون المقاطعون» (Comunista astensionista) على غير حق في دفاعهما عن فكرة عدم الاشتراك في البرلمان. ولكن يبدو لي أنه على حق في نقطة واحدة، حسبما يمكن الحكم على ذلك بالاستناد إلى عددين من جريدته المسماة «السوفييت» («Il Soviet»، العددان ٣ و٤، ١٨ يناير وأول فبراير١٩٢٠)، وأربعة أعداد من مجلة الرفيق سيراتي البديعة المسماة «الشيوعية»(«Comunismos»، الأعداد ١-٤، أول أكتوبر–٣٠ نوفمبر ١٩١٩) ,اعداد منفردة من الجرائد البرجوازية الإيطالية التي استطعت الإطلاع عليها. فالرفيق بورديغا وفريقه بالذات على حق في حملاتهما على توراتي وأشياعه الذين لا يزالون باقين أعضاء في البرلمان، ولكنهم يواصلون سياستهم الإنتهازية القديمة الضارة جداً. وطبيعي أن الرفيق سيراتي والحزب الاشتراكي الإيطالي كله باصطبارهما على هذا الوضع يرتكبات خطأ ينطوي على ذات الضرر والخطر البالغين اللذين حصلا في المجر، حيث قام السادة التوراتيون المجريون من الداخل بأعمالهم التخريبية ضد الحزب والسلطة السوفييتية. ومثل هذا الموقف الخاطئ غير الثابت والمتذبذب إزاء الانتهازيين-البرلمانيين يولد من جهة الشيوعية و«اليسارية» ومن الجهة الأخرى يبرر لحد ما وجودها. واضح أن الرفيق سيراتي غير محق في اتهام النائب توراتي «بعدم الثبات» («Comunismos »: ، العدد ٣) ما دام الحزب الاشتراكي الإيطالي ذاته يتصف بعدم الثبات، إذ يسكت على انتهازية برلمانيين من شاكلة توراتي وشركاه.
        

مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية

الفصل الثامن

هل من الصحيح القول: لا مساومة أبداً؟


رأينا في المقتبس من كراس فرانكفورت، بأي حزم يعرض «اليساريون» هذا الشعار. من المؤسف أن يرى المرء أناسا يعتبرون أنفسهم دون شبهة ماركسيين، ويريدون أن يكونوا ماركسيين، ثم ينسون الحقائق الأساسية من الماركسية. إليكم ما كتبه إنجلس في سنة ١٨٧٤ ضد الثلاثة والثلاثين كومونياً من أشياع بلانكي، وانجلس على غرار ماركس، هو من أولئك الكتاب النوادر والأفذاذ الذين تتضمن كل جملة في كل أثر كبير من آثارهم مغزى رائعاً عميقاً:

«كتب الكومونيون البلانكيون في بيانهم يقولون: «… نحن شيوعيون لأننا نريد أن نتوصل إلى هدفنا بدون أن نتوقف في المحطات الانتقالية، ودون أن نلجأ إلى المساومة التي لا تؤدي إلاّ إلى إبعاد يوم الانتصار وإطالة عهد العبودية».

إن الشيوعيين الألمان هم شيوعيون، لأنهم من خلال جميع المحطات الانتقالية والمساومات التي لم ينشئوها هم، بل أنشأها مجرى التطور التاريخي، يرون الهدف النهائي بوضوح ويقتفونه باسمرار، وهذا الهدف هو إلغاء الطبقات وإنشاء نظام اجتماعي لا يبقى فيه مكان للملكية الخاصة للأرض ولجميع وسائل الإنتاج. أمّا البلانكيون الثلاثة والثلاثون فهم شيوعيون لأنهم يتصورون أنهم ما داموا يريدون القفز من فوق المحطات الانتقالية والمساومات فإن الأمور ستكون على ما يرام، وأنه إذا «بدأت الثورة» في هذه الأيام، وهو ما يثقون به جازمين، ووقعت السلطة في أيديهم، فإن «الشيوعية ستتحقق» في اليوم الثاني. ومن هنا ينجم أنه إذا استحال عمل ذلك على الفور، فإنهم ليسوا إذاً شيوعيين.

إنها لسذاجة صبيانية أن يجعل المرء من جزعه الشخصي برهاناً نظرياً!» (ف. إنجلس. «برنامج الكومونيين البلانكيين»، من جريدة الاشتراكيين-الديموقراطيين الألمان «Volksstaat»، ١٨٧٤، العدد ٧٣، في مجموعة «مقالات سنوات ١٨٧١-١٨٧٥»، الترجمو الروسية، طبعة بتروغراد، سنوات ١٩١٩، ص٥٢-٥٣.

وفي المقالة ذاتها يعرب إنجلس عن بالغ احترامه لفايان ويتحدث عن «الخدمة الجلية» التي أداها فايان (الذي كان شأنه شأن غيد من كبار زعماء الاشتراكية العالمية، قبل خيانتهما الإشتراكية في غشت سنة ١٩١٤). إلاّ أن انجلس لم يكن يترك الخطأ البين دون أن يتناوله بتحليل مسهب. وبالطبع يبدو للثوريين الأحداث جدا والعديمي التجربة، وكذلك للثوريين البرجوازيين الصغار وحتى للمقدمين منهم في السن والكثيري التجربة، أن «السماح بالمساومات» هو أمر «خطر» للغاية وغريب وغير صحيح. وهناك كثيرون من السفسطائيين (من المتسيسة «ذوي التجارب» المفرطة) يفكرون تماماً كما يفكر زعماء الانتهازية الإنجليز الذين ذكرهم الرفيق لنسبري، إذ يقولون: «إذا كانت تجوز لبلاشفة هذه المساومة أو تلك، فلم لا يجوز لنا أن نقدم على أية مساومة كانت؟». ولكن البروليتاريين الذين ترعرعوا في الإضرابات العديدة (ولنأخذ فقط هذه الظاهرة من النضال الطبقي) يفهمون عادة فهماً حسناً كل عمق الحقيقة (الفلسفية والتاريخية والسياسية والنفسية) التي شرحها إنجلس. إن كل بروليتاري قد اجتاز الاضرابات، واجتاز «مساومات» مع الظالمين والمستثمرين الممقوتين، وذلك حين كان يترتب على العمال أن يعودوا إلى العمل وهم لم يحصلوا على شيء مطلقاً، أو أنهم يوافقون على تلبية مطالبهم بصورة جزئية. إن كل بروليتاري يلاحظ، بحكم ظروف النضال الجماهيري واشتداد وتوتر التناقضات الطبقية التي يعيش فيها، الفرق بين مساومة تفرضها الظروف الموضوعية (كالعجز في صندوق الإضراب، وعدم المؤازرة من الغير، واشتداد الجوع والاعياء إلى أقصى حد لدى المضربين) – مساومة لا تنتقص بأي مقدار من الإخلاص الثوري والاستعداد للمضي في النضال من جانب العمال الذين أقدموا على مثل هذه المساومة، وبين مساومة أخرى، مساومة الخونة الذين يلقون على العلل الموضوعية جريرة أنانيتهم في (وكاسري الإضرابات أيضاً يقدمون على «مساومات»!) وجريرة جبنهم ورغبتهم في التزلف إلى الرأسماليين، ووهنهم إزاء التهويل، وأحيانا إزاء الإقناع، وأحياناً إزاء الصدقات، وأحيانا إزاء مداهنات الرأسماليين (ومساومات الخونة هذه كثيرة على الخصوص في تاريخ الحركة العمالية الإنجليزية وقد أجراها زعماء النقابات الإنجليزية، ولكن جميع العمال تقريبا في جميع البلدان قد شاهدوا نظائر هذه الظاهرة بشكل من الأشكال).

وبديهي أنه توجد حالات معينة في منتهى العسر والتعقيد، لا يمكن معها بصورة صحيحة تحديد الطابع الحقيقي لهذه «المساومة» أو تلك إلاّ بصعوبات كبرى، كما يحدث ذلك في حالة القتل، عندما لا يكون من السهل أبداً البت فيما إذا كان هذا القتل عن حق تماماً، أو حتى بدافع الضرورة (مثلاً عند الدفاع المشروع عن النفس)، أو عن غفلة لا تغتفر، أو حتى وفق خطة غادرة حبكت بدقة. وبديهي أنه في السياسة، حيث المقصود أحياناً هو العلاقات المعقدة للغاية – الوطنية والأممية – بين الطبقات والأحزاب، تنشأ حالات كثيرة جداً تكون المسألة فيها أصعب بكثير من مسألة «مساومة» مشروعة في حال الإضراب، أو «مساومة» خائنة يقوم بها أحد كاسري الإضراب أو الزعماء الخونة ومن اليهم. إن تدوين مثل هذه الوصفة أو هذه القاعدة العامة («لا مساومة أبداً»!) لجعلها علاجاً ناجعاً لجميع الحالات، إنما هو أمر سخيف. ينبغي أن يكون عقل المرء سليماً لكيما يستطيع تحليل كل حالة على حدة. إن أهمية المنظمة الحزبية والزعماء الحزبيين الخليقين بهذا اللقب تنحصر، بالدات، في أن يعملوا، عن طريق الجهود المديدة الدائبة المتنوعة الشاملة التي تبذلها جميع القوى المفكرة في طبقة معينة[١]، لإيجاد المعرفة اللازمة، والخبرة اللازمة، وعدا هاتين، الحدس السياسي اللازم، لكيما تحل المسائل السياسية المعقدة حلا سريعا وصحيحاً.

يتصور السذج والعديمو التجربة من الناس أنه يكفي الاعتراف بجواز المساومات بوجه عام، حتى تزول الحدود الفاصلة بين الانتهازية التي نشن نحن عليها، بل ويجب أن نشن عليها، نضالاً لا هوادة فيه، وبين الماركسية الثورية أو الشيوعية. ولكن ما دام هؤلاء الناس لم يعرفوا بعد أن جميع الحدود الفاصلة، سواءفي الطبيعة أو في المجتمع، هي حدود متحركة، وأنها نسبية لدرجة معينة، فإن من المستحيل مساعدتهم لإلاّ عن طريق تثقيفهم وتربيتهم وتهذيبهم زمناً طويلاً وعن طريق التجربة في السياسة وفي الحياة. المهم أن يستطيع المرء، عند كل لحظة تاريخية معينة أو خاصة، ان يميز بين المسائل العلمية في السياسة تلك المسائل التي يظهر فيها الشكل الرئيسي من المساومات غير الجائزة والغادرة، المساومات التي هي مظهر للانتهازية المهلكة للطبقة الثورية، وأن يوجه جميع الجهود لتبيانها ومكافحتها. وإبان الحرب الامبريالية ١٩١٤-١٩١٨ بين فريقي البلدان المتساويين في اللصوصية والضراوة، كان الشكل الرئيسي الأساسي للانتهازية هو الاشتراكية-الشوفينية، أو ما معناه تأييد «الدفاع عن الوطن» تأييداً كان في مثل تلك الحرب، يعادل في الواقع دفاع كل امرئ عن المصالح اللصوصية لبرجوازيته «الخاصة». وبعد الحرب كان المظهر الرئيسي لتلك المساونات غير الجائزة والغادرة التي تكون بمجموعها انتهازية مهلكة للبروليتاريا الثورية ولقضيتها، هو الدفاع عن «عصبة الأمم» اللصوصية، والدفاع عن تحالف كل امرئ مع برجوازية بلاده تحالفاً مباشراً أو غير مباشر ضد البروليتاريا الثورية وضد الحركة «السوفييتية»، والدفاع عن الديموقراطية البرجوازية والبرلمانية البرجوازية ضد «السلطة السوفييتية».

كتب اليساريون الألمان في الكراس الصادر في فرانكفورت ما يلي:

«… يجب بحكم حزم رفض أية مساومة مع الأحزاب الأخرى… وأية سياسة للمناورات والتوفيق».

والعجيب أن هؤلاء اليساريين، وعندهم مثل هذه الآراء، لا يقدمون على إدانة البلشفية إدانة حاسمة! إذ من غير المعقول ألاّ يعرف اليساريون الألمان أن تاريخ البلشفية كله، قبل ثورة أكتوبر وبعدها، طافح بوقائع المناورات والتوفيق والمساومات مع الأحزاب الأخرى بما فيها الأحزاب البرجوازية!

أليس من المضحك للغاية أن يشن المرء حزباً من أجل إسقاط البرجوازية العالمية، حرباً هي أصعب وأطول وأكثر تعقيداً بمئة مرة عن أشد الحروب العادية التي تنشب بين الدول، ثم يمتنع سلفاً عن المناورات وعن الاستفادة من تناقض المصالح (ولو مؤقتاً) بين الأعداء وعن التوفيق والمساومات مع الحلفاء المحتملين (وليكونوا موقتين، متذبذبين، متأرجحين، فرضيين)؟ أفلا يشبه ذلك المثل التالي وهو كأننا، عند ارتقاء جبل طل حريزا حتى الآن، نمتنع سلفاً عن السير المتعرج أحيانا أو النكوص على الإعقاب أحيانا أخرى أو الإنصاف عن الاتجاه الذي سبق أن اتخذناه واختبار اتجاهات مختلفة؟ ومع ذلك نجد بعض أعضاء الحزب الشيوعي الهولندي يبدون، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، جهراً أو سراً، كلياً أو جزئياً، تأييدهم لهؤلاء الناس الذين بلغوا هذه الدرجة من الفجاجة وقلة الوعي وعدم الخبرة (حبذا لو أن الشباب هو سبب ذلك، إذ أن الله ذاته قد أمر الشبان، لزمن معين، أن يهذروا بمثل هذه السخافات)!!

بعد الثورة الاشتراكية الأولى للبروليتاريا، وبعد إسقاط البرجوازية في بلاد واحدة، تبقى بروليتاريا تلك البلاد لزمن طويل أضعف من البرجوازية، وذلك لمجرد أن لهذه الأخيرة روابط عالمية هائلة وكذلك بحكم الانبعاث العفوي المستمر للرأسمالية والبرجوازية على أيدي منتجي البضائع الصغار في البلاد التي أسقطت فيها البرجوازية. والانتصار على عدو أشد بأسا لا يمكن إلاّ ببذل أقصى الجهد، ولا بد أثناء ذلك من الاستفادة كل الإستفادة، وبمنتهى الاهتمام واليقضة، من أي «صدع» فيما بين الأعداء مهما كان ضئيلا، ومن أي تناقض في المصالح بين برجوازية في داخل كل بلد، وكذلك من الاستفادة من أية إمكانية، مهما كانت ضئيلة، لكسب حليف جماهيري، وان كان حليفا مؤقتا ومتذبذباً ومزعزعا وفرضياً، ولا يركن إليه. ومن لم يفهم هذا الأمر، فهو لم يفهم ولا حرفا واحداً في الماركسية وفي الإشتراكية العلمية الحديثة بوجه عام. ومن لم يثبت عمليا، خلال مدة طويلة جدا وفي أوضاع سياسية متنوعة جداً، قدرته على تطبيق هذه الحقيقة في العمل، فإنه لم يتعلم بعد كيف يساعد الطبقة الثورية في نضالها من أجل تحرير البشرية الكادحة جميعها من الإستثماريين. إن ما أوردته ينطبق بدرجة واحدة على عهد ما قبل وما بعد استيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية.

إن نظريتنا ليست عقيدة جامدة، بل مرشد للعمل – هكذا قال ماركس وإنجلس، إن أفدح غلطة وأبشع جريمة ارتكبها الماركسيون «من الماركة المسجلة»، أمثال كارل كاوتسكي وأوتو باور ومن في شاكلتهم، هو أن هؤلاء لم يفهموا هذا الأمر ولم يستطيعوا تطبيقه في اللحظة الفاصلة من ثورة البروليتاريا. كان تشيرنيتشيفسكي، الاشتراكي الروسي العظيم قبل عهد ماركس يقول: «النشاط السياسي ليس كرصيف جادة نيفسكي» (الرصيف النظيف العريض المعبد الممتد باستقامة طوال الشارع الرئيسي في بطرسبورغ). ولقد دفع الثوريون الروس، من عهد تشيرنيتشيفسكي، ضحايا لا تحصى جزاء تجاهلهم أن نسيانهم هذه الحقيقة. ينبغي أن نسعى بأي ثمن كان لنمنع الشيوعيين اليساريين والمخلصين للطبقة العاملة من الثوريين في أوروبا الغربية وأمريكا، من أن يدفعوا، لاستيعاب هذه الحقيقة، مثل الثمن الباهظ الذي دفعه الروس المتأخرون.

لقد استفاد الاشتراكيون-الديموقراطيون الثوريون الروس، قبل سقوط القيصرية، من خدمات الليبراليين البرجوازيين مراراً، أي أنهم عقدوا معهم كثرة من المساومات العملية، وفي سنتي ١٩٠١-١٩٠٢، قبل ظهور البلشفية، عقدت هيئة التحرير القديمة «للايسكرا» )وكان أعضاؤها بليخانوف واكسيلرود وزاسوليتش ومارتوف وأنا) بصورة رسمية حلفاً سياسياً مع ستروفه، زعيم الليبراليية البورجوازية السياسي (صحيح أن الحلف كان قصير الأمد)، ولكن الهيئة استطاعت في الوقت نفسه أن تشم على الليبرالية البرجوازية وعلى أضأل نفوذ يظهر لها داخل حركة العمال، نضالاً فكرياً وسياسيا لا وقفة فيه ولا هوادة. وقد واصل البلاشفة على الدوام هذه السياسة. فمنذ سنة ١٩٠٥ كانوا يدافعون بصورة منتظمة عن تحالف الطبقة العاملة والفلاحين ضد البرجوازية الليبرالية وضد القيصرية، دون أن يمتنعوا قط في الوقت ذاته عن تأييد البرجوازية ضد القيصرية (مثلا في المرحلة الثانية من الانتخابات، أو عند إعادة الاقتراع)، كما أنهم لم يوقفوا نضالهم الفكري والسياسي الذي لا يعرف المسالمة ضد حزب الفلاحين البرجوازي الثوري، حزب «الاشتراكيين-الثوريين»، نازعين عنهم القناع بوصفهم ديموقراطيين برجوازيين صغاراً يضعون أنفسهم زوراً في عداد الاشتراكيين. وفي سنة ١٩٠٧، في زمن انتخابات الدوما، دخل البلاشفة، لأمد قصير، في كتلة سياسية رسمية مع «الاشتراكيين-الثوريين». ومن سنة ١٩٠٣ حتى سنة ١٩١٢، خلال عدة سنوات، كنا مع المناشفة رسمياً في حزب اشتراكي-ديموقراطي واحد.. ولم نوقف أبداً النضال الفكري والسياسي ضدهم، باعتبارهم انتهازيين يسري بواسطتهم نفوذ البرجوازية على البروليتاريا. وفي زمن الحرب عقدنا نحن بعض المساومات مع «الكاوتسكيين» ومع المناشفة اليساريين (مارتوف) ومع قسم من «الاشتراكيين-الثوريين» (تشيرنوف، ناتانسون)، وجلسنا سوية معهم في زيميرفالد وكينتال وأصدرنا بيانات مشتركة، إلاّ أننا لم نوقف، بل ولم نفتر أبداً في نضالنا الفكري السياسي ضد «الكاوتسكيين» وضد مارتوف وتشيرنوف (أمّا ناتانسون فتوفي في سنة ١٩١٩ حين كان قريبا جدا منا، وكان «شيوعيا ثوريا» من الشعبيين، وكان في الأغلب متضامنا معنا. وفي لحظة انقلاب أكتوبر دخلنا في كتلة رسمية، ولكنها كانت هامة للغاية (وموفقة للغاية (وموفقة للغاية)، وقد قبلنا برنامج الاشتراكيين-الثوريين الزراعي بحذافيره، دون إدخال أي تعديل فيه، أي أننا عقدنا مساومة لا شك فيها لكيما نبرهن للفلاحين أننا لا نريد التحكم فيهم، بل الاتفاق معهم. وفي الوقت نفسه عرضنا على «الاشتراكيين-الثوريين اليساريين» تشكيل كتلة سياسية رسمية، مع اشتراكهم في الحكومة، (وسرعان ما حققنا ذلك)، ولكنهم أخلو بهذه الكتلة بعد انعقاد صلح بريست، ثم تمادوا حتى شنوا علينا في يوليوز سنة ١٩١٧ انتفاضة مسلحة، وفيما بعد بلغ بهم الأمر حد الكفاح المسلح ضدنا.

ولذلك من المفهوم أن حملات اليساريين الألمان في اللجنة المركزية لحزب الشيوعيين في ألمانيا بسبب إجازتها فكرة الدخول في كتلة مع «المستقلين» («الحزب الاشتراكي-الديموقراطي المستقل في ألمانيا»، الكاوتسكيين) تبدو لنا طائشة تماماً ودليلاً جليا يشهد بأن «اليساريين» على خطأ. لقد كان عندنا في روسيا كذلك المناشفة اليمينيون (ممن دخلوا في حكومة كيرنسكي) وهم يضاهون الشيدمانيين الألمان، والمناشفة اليساريون (مارتوف) ممن كانوا معارضين للمناشفة اليمينيين وهم يضاهون الكاوتسكيين الألمان. إن انتقال جماهير العمال التدريجي من جانب المناشفة إلى جانب البلاشفة قد لاحظناه بوضوح في سنة ١٩١٧. ففي مؤتمر السوفييتات الأول لعامة روسيا الذي انعقد في يونيو سنة ١٩١٧ كانت لنا ١٣٪ فقط من الأصوات، وكانت الأكثرية للاشتراكيين-الثوريين والمناشفة. وفي مؤتمر السوفييتات الثاني (٢٥ أكتوبر ١٩١٨ حسب التقويم القديم) كانت لنا ٥١٪ من الأصوات. فلماذا إذن لم يؤد جنوح العمال في ألمانيا من اليمين إلى اليسار، ذات الجنوح المتماثل مع ذلك تماماً، إلى تقوية مباشرة للشيوعيين، بل إنه في بادئ الأمر حزب «المستقلين» الوسطى، رغم أن هذا الحزب لم تكن له قط أية فكرة سياسية مستقلة، ولم تكن له أية سياسة مستقلة، وإنما كان يتذبذب بين الشيدمانيين والشيوعيين؟

واضح أن أحد هذه الأسباب كان التكتيك المغلوط الذي اتبعه الشيوعيون الألمان، الذين يجب عليهم دون وجل، وبصدق، أن يعترفوا بهذا الخطأ، وأن يتعلموا كيفية إصلاحه. خطؤهم هو في رفضهم الاشتراك في البرلمان البورجوازي الرجعي، وفي النقابات الرجعية. وخطؤهم هو في الظواهر العديدة من ذلك المرض الطفولي، مرض «اليسارية» الذي برزت أعراضه الآن عياناً، وعليه أصبح من الممكن علاجه بصورة أحسن وأسرع، وذلك يعود بأكبر الفائدة على الجسم.

واضح أن «الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني المستقل» ليس حزبا متجانسا: فإلى جانب الزعماء الانتهازيين القدماء (كاوتسكي وهيلفردينغ، ولدرجة كبيرة، كما يبدو، كريسبين وليديبور وغيرهما) ممن أثبتوا عدم قدرتهم على فهم أهمية السلطة السوفييتية وديكتاتورية البروليتاريا، وعدم قدرتهم على قيادة نضال البروليتاريا الثوري، تشكل في هذا الحزب جناح بروليتاري يساري، وهو أخذ في النمو بسرعة فائقة. إن مئات الألوف من أعضاء هذا الحزب (الذي يعود أعضاؤه كما يظهر نحو ثلاث الألوف من أعضاء هذا الحزب (الذي يعد أعضاؤه كما يظهر نحو ثلاثة أرباع المليون) هم بروليتاريون أخذوا يهجرون شيدمان ويتجهون بسرعة نحو الشيوعية. وقد سبق لهذا الجناح البروليتاري أن اقترح في مؤتمر «المستقلين» في لايبزغ (سنة ١٩١٩) الانضمام في الحال، ودون قيد أو شرط، إلى الأممية الثالثة. إن الخوف من «المساومة» مع هذا الجناح من الحزب أمر مضحك تماماً. فإن الشيوعيين، بالعكس، ملزمون بأن يبحثوا ويجدوا الشكل الملائم للمساومة معهم، مساومة تسهل، من جهة، الاندماج التام الضروري مع هذا الجناح وتعجل فيه، ومن الجهة الأخرى لا تعيق الشيوعيين مطلقا عن نضالهم الفكري السياسي ضد الجناح اليميني الانتهازي «للمستقلين». من المحتمل ألاّ يكون إيجاد الشكل الملائم للمساومة أمراً هيناً، فالدجال وحده بإمكانه أن يعد العمال والشيوعيين الألمان بأن يكون طريق النصر طريقا «هيناً».

لا تكون الرأسمالية رأسمالية إذا لم تكن البروليتاريا «الصرف» محاطة بجمهرة من العناصر الإنتقالية المتنوعة تنوعا خارقا، من البروليتاريين إلى أشباه البروليتاريين (أولئك الذين يحصلون على نصف وسائل عيشهم من بيع قوت عملهم)، ومن أشباه البروليتاريين إلى الفلاحين الصغار (والحرفيين الصغار وأصحاب الملكية الصغار بوجه عام). ومن الفلاح الصغير إلى الفلاح المتوسط وهكذا دواليك، وإذا لم تكن البروليتاريا نفسها منقسمة في داخلها إلى فئات أكثر تطوراً أو أقل تطوراً، ومنقسمة حسب مناطق الاستيطان، والمهنة، والدين أحيانا الخ.. ومن كل هذا تنشأ ضرورة مطلقة، ضرورة لجوء طليعة البروليتاريا، وقسمها الواعي، أي الحزب الشيوعي، إلى مناورات التوفيق والمساومات مع مختلف فئات البروليتاريين، ومع مختلف أحزاب العمال وصغار أصحاب الملكية. وجوهر القضية كله يتلخص في معرفة كيفية تطبيق هذا التكتيك، لرفع المستوى العام لوعي البروليتاريا وثوريتها وقدرتها على النضال وعلى الانتصار، لا النزول بذلك المستوى. وتجدر الإشارة عرضاً إلى أن انتصار البلاشفة على المناشفة قد تطلب ليس فقط ليس فقط قبل ثورة أكتوبر ١٩١٧، بل بعدها كذلك، تطبيق تكتيك المناورات والتوفيق والمساومات، ولكن، من البديهي، تلك التي منها تسهل أمر البلاشفة وتعجل بتحقيقه وتوطد موقعهم وتقويتهم على حساب المناشفة. إن الديموقراطيين البرجوازيين الصغار (والمناشفة في عدادهم) يتأرجحون، ولا مناص، بين البرجوازية والبروليتاريا، بين الديموقراطية البرجوازية والنظام السوفييتي، بين الإصلاحية والثورية، بين حب العمال والخوف من الديكتاتورية البروليتارية وهلمجرا. يجب أن يكون التكتيك الصحيح للشيوعيين الإستفادة من هذه التأرجحات وعدم اهمالها أبداً. وهذه الاستفادة تستلزم التساهلات مع تلك العناصر التي تنعطف نحو البروليتاريا، وذلك عندما تنعطف، وبمقدار ما تنعطف نحوها، كما تستلزم إلى جانب ذلك النضال ضد أولئك الذين ينعطفون نحو البرجوازية. وكانت نتيجة هذا التكتيك الصحيح هي أن المنشفية أخذت تنحل عندنا باستمرار وهي تنحل أكثر فأكثر، والزعماء الانتهازيون العنيدون أخذوا يعزلون، وأخذ يرد على معسكرنا من معسكر الديموقراطية البرجوازية الصغيرة أحسن العمال وأفضل العناصر. وتلك عملية طويلة الأمد، وأمّا «القرار» الطائش المتسرع القائل أن «لا مساومات أبداً ولا مناورات» فمن شأنه فقط أن يضر بقضية تعزيز نفوذ البروليتاريا الثورية وزدة قوتها.

وأخيرا، إن أحد الأخطاء التي ارتكبها «اليساريون» في ألمانيا دون شك، هو اصرارهم بعناد على عدم الاعتراف بصلح فرساي. إذ كلما أراد ك. هورنر، مثلا، أن يجد لهذا الرأي صيغة «أرجح» و«أكثر أبهة» و«جزماً» وتوكيداً، كلما ظهر هذا الجزء أكثر دكاء. لا يكفي التبرؤ من الخزعبلات الفاضحة لممثلي «البلشفية القومية» (لاوفنبرغ وآخرون)، ممن تمادوا إلى حد تبرير الدخول في كتلة مع البرجوازية الألمانية من أجل الحرب ضد دول الوفاق، في ظروف الثورة البروليتارية الدولية الراهنة، بل ينبغي على المرء أن يفهم أن تكتيكاً لا يقر بأن من المحتم على ألمانيا السوفييتية (إذا تأتى أن تنشأ عاجلا جمهورية ألمانيا السوفييتية) كانوا على حق إذ عمدوا، عندما كان الشيدمانيون قابعين في الحكومة، والحكم السوفييتي في المجر لم يكن قد أسقط بعد، وعندما كانت إمكانية قيام ثورة سوفييتية في فيينا تأييداً للمجر السوفييتية غير مستبعدة، إلى المطالبة في تلك الظروف بتوقيع صلح فرساي. فقد كان «المستقلون» آنذاك يداورون ويناورون بصورة سيئة جدا، فقد أخذوا على أنفسهم، إلى هذا الحد أو ذاك، المسؤولية عن الخونة الشيدمانيين، وتخلوا، إلى هذا الحد أو ذاك، عن وجهة نظر الحرب الطبقية القاسية (والصابرة جداً) ضد الشيدمانيين، متدهورين إلى وجهة النظر «اللاطبقية» و«فوق الطبقية».

غير أن الوضع الآن، كما هو واضح، كالآتي: أن الشيوعيين الألمان لا يجب أن يقيدوا أنفسهم، ويعدوا بأنهم في حالة انتصار الشيوعية سيفسخون، حتما وبصورة قطعية، صلح فرساي. فذلك سفه. ينبغي لهم القول: إن الشيدمانيين والكاوتسكيين قد ارتكبوا سلسلة من الخيانات عسرت (وأحبطت مباشرة في بعض الحالات) أمر التحالف مع روسيا السوفييتية ومع المجر السوفييتية. إلاّ أننا نحن الشيوعيين سنبذل قصارى جهدنا لتسهيل هذا التحالف والتمهيد له، علما بأننا لسنا ملزمين البتة بفسخ صلح فرساي، وبفسخه في الحال. إن إمكانية فسخه بصورة موفقة لا تتوقف على نجاحات الحركة السوفييتية في ألمانيا فقط، بل كذلك على نجاحاتها في الميدان الدولي. لقد عرقل الشيدمانيون والكاوتسكيون هذه الحركة، أمّا نحن فنساعدها. هذا هو جوهر القضية، وهذا هو الفارق الأساسي. ولئن فرط أعداؤنا الطبقيون، الاستثماريون وخدمهم، والشيدمانييون والكاوتسكيون، بجملة من امكانيات تقوية الحركة السوفييتية الألمانية والعالمية على حد سواء، وتقوية الثورة السوفييتية الألمانية والعالمية كذلك فإن جريرة ذلك تقع عليهم. إن قيام الثورة السوفييتية في ألمانيا يشد ساعد الحركة السوفييتية العالمية التي هي أقوى دعامة (والتي هي الدعامة الوحيدة الممكنة المنيعة ذات الجبروت العالمي) ضد صلح فرساي وضد الامبريالية العالمية بوجه عام. إن وضع مسألة التحرر من صلح فرساي في المقام الأول، ووضعها بشكل الزامي وقاطع ومستعجل، وقبل مسألة تحرير سائر البلدان التي تضطهدها الإمبريالية من الظلم الذي تعانيه من الامبريالية، هو نزعة قومية برجوازية صغيرة (تليق بأمثال كاوتسكي وهيلفردينغ وأوتو باور وشركاهم) وليس هو بالأممية الثورية. إن إسقاط البرجوازية في أي بلد من البلدان الأوروبية الكبرى، ومنها في ألمانيا، سيكون فوزا للثورة العالمية، يمكن من أجله، بل ويجب، القبول إذا اقتضى الأمر، بقاء صلح فرساي لمدة أطول. فلئن استطاعت روسيا وحدها أن تتحمل لصالح الثورة صلح بريست بضعة أشهر، فإن من غير المستبعد أبداً أن تتحمل ألمانيا السوفييتية، في حال تحالفها مع روسيا السوفييتية، صلح فرساي لزمن أطول وذلك لصالح الثورة.

إن امبرياليي فرنسا وانجلترا وغيرهما يستفزان الشيوعيين الألمان، وينصبون لهم فخا ويقولون: «قولوا أنكم سوف لا توقعون صلح فرساي»، أما الشيوعييون اليساريون، فعوضاً عن أن يقوموا بمناورات بارعة ضد العدو الغادر الذي هو في اللحظة الراهنة أقوى منهم، وعوضا عن أن يقولو له: «إننا سنوقع الآن صلح فرساي»، يقعون كالأطفال في الفخ المنصوب لهم. إننا إذا كبلنا أيدينا سلفاً، وأعلنا على المكشوف للعدو الذي هو تلآن مسلح أحسن منا، وقلنا له أننا نحاربه أم لا ومتى نحاربه، نكون قد أظهرنا الحمق، لا الروح الثورية. إن ولوج المعركة عندما يكون مسلماً أنها في صالح العدو لا في صالحنا، هو جريمة. أمّا الزعماء السياسيون للطبقة الثورية ممن لا يستطيعون أن يقوموا «بالمناورات والتوفيق والمساومات» لكيما يتحاشوا الولوج في المعركة ليست في صالحهم مطلقا، فإنهم لا يصلحون لشيء قطعاً.





[١] في كل طبقة، حتى في أرقى البلدان ثقافة، وحتى في أكثر الطبقات تقدماً، عندما تكون جميع قواها المعنوية قد تعاظمت، بنتيجة الظروف السائدة آنذاك، إلى أعلى الدرجات، يوجد على الدوام ممثلون للطبقة لا يفكرون ولا يستطيعون التفكير، هؤلاء يسبقون حتماً ما دامت الطبقات موجودة، وما دام المجتمع اللاطبقي لم يتوطد بعد على دعائمه ولم يرسخ ولم يتطور. ولو لم يكن الأمر كذلك لما كانت الرأسمالية رأسمالية ظالمة للجماهير.
        

مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية

الفصل التاسع

الشيوعية «اليسارية» في انجلترا


لا يوجد بعد في إنجلترا حزب شيوعي، لكن هناك بين العمال حركة شيوعية يانعة وواسعة وقوية ونامية بسرعة، تعطينا الحق في أن نبني عليها أزهى الآمال. هناك بضعة أحزاب ومنظمات سياسية («الحزب الاشتراكي البريطاني»، و«حزب العمال الاشتراكي»، و«الجمعية الاشتراكية في ويلس الجنوبية». و«اتحاد العمال الاشتراكي»، ترغب في إنشاء حزب شيوعي، وها هي تقوم فيما بينها بمفاوضات في هذا الصدد. ففي جريدة «دريدنوت العمال» الاسبوعية (المجلد السادس، عدد ٤٨ المؤرخ ٢١-٢-١٩٢٠) وهي لسان حال المنظمة الأخيرة المذكورة أعلاه، نشرت مقالة للمحرر في الجريدة، الرفيقة سيلفيا بانكهورست عنوانها «نحو إنشاء حزب شيوعي». وقد تضمنت المقالة سير المفاوضات بين المنظمات الأربع المذكورة، حول تشكيل حزب شيوعي موحد، على أساس الانضمام إلى الأممية الثالثة، والاعتراف بالنظام السوفييتي عوضاً عن البرلمانية، والاعتراف بديكتاتورية البروليتاريا. ويظهر أن احدى العقبات الرئيسية في سبيل المبادرة في الحال إلى إنشاء حزب شيوعي موحد هي الاختلاف حول مسألة الاشتراك في البرلمان، وحول انضمام الحزب الشيوعي الجديد إلى «حزب العمال» القديم القائم على المبدأ المهني، الانتهازي والاشتراكي-الشوفيني الذي يتألف بمعظمه من التريديونيونات. إن «إتحاد العمال الاشتراكي» و«حزب العمال الإشتراكي»[١] سواء بسواء يعارضان الاشتراك في الانتخابات البرلمانية وفي البرلمان، ويعارضان الانضمام إلى «حزب العمال»، وهما في هذا الصدد يختلفان مع جميع أو أغلبية أعضاء الحزب الاشتراكي البريطاني الذي يعتبرانه «الجناح اليميني للأحزاب الشيوعية» في إنجلترا (ص٥ من المقالة المذكورة لسيلفيا بانكهورست).

وهكذا فإن الانقسام الأساسي هنا هو نفس الانقسام الموجود في ألمانيا، رغم الفارق الكبير في شكل ظهور الاختلافات (ففي ألمانيا يظهر هذا الشكل بصورة أقرب جداً إلى الشكل «الروسي» مما هو في إنجلترا) وفي جملة أخرى من الظروف. فلنتمعن في حجج «اليساريين».

تستشهد الرفيقة سيلفيا بانكهورست في مسألة الاشتراك في البرلمان بمقالة نشرت في العدد نفسه للرفيق وليم غالاخر (W. Gallacher) الذي يكتب باسم «مجلس العمال الأسكوتلندي» في غلاسغو:

«إن هذا المجلس منارئ للبرلمانية بصورة قطعية، وتؤيده الأجنحة اليسارية من مختلف المنظمات السياسية. نحن نمثل الحركة الثورية في سكوتلانده، الحركة الساعية وراء إيجاد تنظيم ثوري في الصناعات (في مختلف فروع الإنتاج) وإيجاد حزب شيوعي مؤسس على اللجان الاجتماعية، في البلاد كلها. لقد تجادلنا زمنا مديدا مع البرلمانيين الرسميين ولم نر ضرورة لاعلان حرب مكشوفة عليهم، أمّا هم فيخافون من شن الهجوم علينا.

لكن هذه الحالة لا يمكن أن تستمر طويلاً، فنحن منتصرون على طول الجبهة.

إن جمهور أعضاء حزب العمال المستقل في سكوتلنده يزدادون اشمئزازاً من فكرة البرلمان يوما عن يوم، وأما السوفييتات (وقد كتبت هذه الكلمة الروسية بالأحرف الإنجليزية) أو مجالس العمال فتجد التأييد تقريبا من جميع الفروع المحلية. وبديهي أن يكون لهذا الأمر أهمية خطيرة للغاية عند أولئك السادة الذين يعتبرون السياسة وسيلة للتكسب (كحرفة)، ولذا يلجأون إلى مختلف الوسائل لإقناع أعضاء منظمتهم بأن يعودوا القهقرى إلى أحضان البرلمانية. يجب على الرفاق الثوريين ألاّ يقدموا أية مساعدة إلى هذه العصابة (إشارات التأكيد كلها من كاتب المقال). إن نضالنا هذا سيكون نضالاً عسيراً. وأن من أسوأ ما يتصف به هو خيانة أولئك الذين تكون مطامعهم الخاصة دافعاً عندهم أقوى من إهتمامهم بالثورة. إن أي تأييد للبرلمانية ليس إلاّ مجرد مساعدة لوضع السلطة في أيدي أمثال شيدمان ونوسكيه البريطانيين. وأن هنديرسون وكلاينس (Clynes) وشركاهم هم رجعيون لا أمل فيهم. أمّا حزب العمال المستقل الرسمي، فهو صائر أكثر فأكثر تحت نفوذ الليبراليين البرجوازيين، الذين وجدوا مأواهم الروحي في معسكر السادة ماكدونالد وسنودن وشركاهما. إن حزب العمال المستقل الرسمي عدو لدود للأممية الثالثة، أمّا القاعدة فتؤيدها. إن أي تأييد للانتهازيين البرلمانيين ليس إلاّ مجرد تصرف لمصلحة السادة المذكورين أعلاه… إن كل ما يراد هنا هو منظمة ثورية إنتاجية (صناعية) سليمة، وحزب شيوعي يعمل وفق أسس عملية محددة واضحة. فإذا كان باستطاعة رفاقنا أن يساعدونا في إنشاء تلك المنظمة وهذا الحزب، فإننا سنتقبل مساعدتهم بسرور، وإذا لم يكن باستطاعتهم ذلك فليبتعدوا كلياً، إكراما لوجه الله، ولا يتدخلوا، إذا كانوا لا يريدون خيانة الثورة بتأييدهم للرجعيين، هؤلاء الذين يحرصون كل هذا الحرص على نيل اللقب البرلماني «السامي» (؟، الاستفهام لكاتب المقال)، ويتحمسون كل هذا التحمس ليثبتوا أنهم يستطيعون إدارة الحكم بمثل التوفيق الذي يدير به «السادة» أنفسهم، أي الساسة الطبقيون».

إن هذه الرسالة المرسلة إلى هيئة التحرير تعبر، حسب رأيي، تعبيرا رائعاً عن نزوع ووجهة نظر الشيوعيين الشبان أو النشطاء العمال الذين شرعوا يقتربون من الشيوعية للتو. وهذا النزوع مدعاة لأعظم السرور وله قيمة كبيرة، وينبغي أن يقدر ويسند، إذ بدونه لا يرجى أمل في انتصار ثورة بروليتاريا في إنجلترا، أو في أي بلد آخر أياً كان. إن الأشخاص الذين يستطيعون أن يعربوا عن نزوع الجماهير هذا، ويستطيعون أن يثيروا عند الجماهير مثل هذا النزوع (الذي غالباً ما يكون خامدا وغير مدرك وغير متيقظ)، ينبغي أن يقدروا وأن تبذل لهم كل مساعدة. ولكن يجب في الوقت نفسه أن نقول لهم بصراحة، وعلى المكشوف، أن النزوع وحده لا يكفي من أجل قيادة الجماهير في نضال ثوري عظيم، وأن هذا الخطأ أو ذاك الذي يوشك أن يرتكبه أكثر الناس وفاء لقضية الثورة، أو أنهم يرتكبونه فعلاً، هو خطأ بإمكانه أن يلحق الضرر بقضية الثورة، إن رسالة الرفيق غالاخر إلى هيئة التحرير تدل دون شك على بذور جميع تلك الأخطاء التي يرتكبها الشيوعيون «اليساريون» الروس في سنة ١٩٠٨ وسنة ١٩١٨.

إن كتاب الرسالة مدفوع بالحقد البروليتاري النبيل على «الساسة الطبقيين» البرجوازيين (وهذا الحقد، على كل حال، لا يفهمه أو يتحسسه البروليتاريون وحدهم، بل والكادحون جميعاً أو حسب التعبير الألماني، «الناس الصغار» جميعاً) وهذا الحقد، حقد ممثل الجماهير المظلومة والمستثمرة هو في الحقيقة «رأس كل حكمة» وأساس كل حرية اشتراكية وشيوعية وأساس نجاحاتها.غير أن كاتب الرسالة، كما يبدو، لا يأخذ بالحسبان واقع أن السياسة علم وفن لا يهبطان من السماء، ولا يحصلان دون جهد، وان البروليتاريا، إذا أرادت أن تنتصر على البرجوازية، يجب عليها أن تنشئ لنفسها ومن عندها «ساسة طبقيين» بروليتارييت، ساسة لا يقلون شأنا عن الساسة البرجوازيين.

لقد أدرك كاتب الرسالة إدراكا تاما أن سوفييتات العمال وحدها بإمكانها أن تكون الوسيلة للتوصل إلى أهداف البروليتاريا، لا البرلمان. وبالطبع، إن من لا يفهم حتى الآن هذا الأمر، هو رجعي عريق حتى ولو كان أعلم العلماء، وأحنك الساسة، وأخلص الاشتراكيين، وأكثر الماركسيين إطلاعاً، وأشرف المواطنين وأرباب العائلات. غير أن كاتب الرسالة لم يقم حتى بطرح السؤال التالي ولم تخامر فكره ضرورة طرح هذا السؤال، هو: هل يمكن السير بالسوفييتات إلى الإنتصار على البرلمان دون أن ينفذ الساسة «السوفييتيون» إلى داخل البرلمان؟ ودون أن يُعمل على نسف البرلمان من الداخل؟ ودون أن يجري الاستعداد في داخل البرلمان، من أجل نجاح السوفييتات في القيام بالمهمة المطروحة أمامها، مهمة حل البرلمان؟ في حين يبدى كاتب الرسالة فكرة صحيحة جداً، وهي أن الحزب الشيوعي في بريطانيا يجب أن يعمل بموجب الأسس العلمية. فالعلم يتطلب أولاً أن تؤخذ تجربة البلدان الأخرى بالحسبان، تجتاز تجربة مماثلة جداً، أو أنها قد اجتازتها من عهد قريب. ثانيا، أن تؤخذ بالحسبان جميع القوى والجماعات والأحزاب والطبقات والجماهير، العاملة في بلد بعينه، وليس تعيين السياسة فقط على أساس الرغبات والآراء، ودرجة الوعي والاستعداد للنضال عند جماعة واحدة أو حزب واحد فقط.

أمّا أن هندرسون وكلاينس وماكدونالد وسنودن ومن لف لفهم رجعيون لا يرجى شفاؤهم، فهو أمر صحيح، وصحيح كذلك أنهم يريدون الاستيلاء على السلطة (مفضلين أثناء ذلك الائتلاف مع البرجوازية)، وأنهم يريدون «إدارة الحكم» وفق الأنظمة البرجوازية القديمة ذاتها، وأنهم حالما يصلون إلى الحكم لا بد لهم من أن يسيروا سيرة شيدمان ونوسكيه وأمثالهما. كل ذلك صحيح. غير أنه لا يستنتج منه أبداً أن دعمهم يعني خيانة الثورة، بل أن ما يستنتج من ذلك هو أن على ثوريي الطبقة العاملة أن يؤيدوا، لصالح الثورة، هؤلاء السادة، بعض التأييد البرلماني. ولشرح هذه الفكرة أستشهد بمستندين سياسيين إنجليزيين حديثين: ١) خطاب رئيس الوزراء لويد جورج في ١٨/٠٣/١٩٢٠ (حسبما ورد «The Manchester Guardian» الصادرة في ١٩ مارس سنة ١٩٢٠)، ٢) حجج الشيوعية «اليسارية»، الرفيقة سيلفيا بانكهورست في مقالها أعلاه.

يجادل لويد جورج في خطابه اسكويث (الذي كان قد دعي خصيصاً لحضور الاجتماع إلاّ أنه امتنع عن الحضور) وأولئك الليبراليين الذين لا يريدون الائتلاف مع المحافظين، بل التقرب من حزب العمال. (وقد رأينا في رسالة الرفيق غالاخر إلى هيئة التحرير أيضا ما يشير إلى التحاق بعض الليبراليين بحزب العمال المستقل.) يسعى لويد جورج ليبرهن أن ائتلاف مع المحافظين ائتلافا وثيقا أمر ضروري، إذ بدون ذلك يمكن أن ينتصر حزب العمال، الذي «يفضل» لويد جورج «تسميته» بالحزب الإشتراكي والذي يسعى في سبيل «الملكية الجماعية» لوسائل الإنتاج. يشرح زعيم البرجوازية الإنجليزية بلغة مبسطة لمستمعيه، أعضاء الحزب الليبرالي البرلماني الذي يظهر أنهم لم يكونوا قد عرفوا بعد هذا الأمر فيقول: «في فرنسا كان يدعى هذا بالشيوعية وفي ألمانيا كانوا يسمونه الاشتراكية وفي روسيا يسمونه البلشفية». ويشرح لويد جورج قائلا أنه لا يمكن لليبراليين مبدئياً قبول هذا الأمر، لأن الليبراليين هم من الناحية المبدئية أنصار الملكية الخاصة. وقال الخطيب «أن المدينة في خطر»، ولذلك يجب على الليبراليين والمحافظين أن يتحدوا…

قال لويد جورج:

«… لو ذهبتم إلى المناطق الزراعية، فإني موافق أنكم ستجدون الإنقسام الحزبي القديم راسخاً هناك كالسابق. إنها بعيدة عن الخطر. لا يوجد أي خطر هناك. ولكن عندما تصل القضية إلى المناطق الريفية، فإن الخطر يكون هناك عظيماً كما هو عظيم الآن في بعض المناطق الصناعية. إن أربعة أخماس بلادنا منصرفة إلى الصناعة والتجارة، وخمسها أو أقل من ذلك منصرف إلى الزراعة. وذلك هو أحد الأمور التي تشغل بالي على الدوام كلما فكرت في أخطار المستقبل. إن سكان فرنسا زراعيون، وهناك تجدون قاعدة ثابتة لاراء معينة لا تتحرك بسرعة كبيرة، ولا يمكن للحركة الثورية أن تثيرها بغاية السهولة. أمّا في بلادنا فالأمر على غير ذلك. فبلادنا يمكن أن تقلب بسهولة أكبر من أي بلد آخر في العالم، وإذا بدأت تتهاوى، فستكون الكارثة فيها، بحكم تلك الأسباب، أشد منها في أية بلاد أخرى». وبذلك برى القارئ أن السيد لويد جورج ليس شخصاً ذكياً جداً فحسب، بل إنه تعلم كذلك من الماركسيين أشياء كثيرة. فلا عيب في أن نتعلم نحن كذلك شيئا من لويد جورج.

إن من الممتع أيضاً أن نشير إلى المقطع التالي من المناقشة التي جرت بعد خطاب لويد جورج:

«السيد والاس (Wallace): بودي أن أسأل ما هو رأي رئيس الوزراء في نتائج سياسته في المناطق الصناعية بالنسبة للعمال الصناعيين، فالكثير جداً منهم في الوقت الحاضر ليبراليون، ومنهم نستمد نحن تأييداً كبيراً. أفلا يمكن أن تكون النتيجة المحتملة باعثاً لزيادة قوى حزب العمال زيادة كبرى بين العمال الذين هم في الحال الحاضر أعواننا المخلصين؟

رئيس الوزراء: إني أرى رأيا يخالف ذلك تماما. فواقع أن الليبراليين يتصارعون فيما بينهم، يسوق بلا شك، عدداً كبيراً من الليبراليين، من فرط اليأس، نحو حزب العمال، حيث يمكن أن تجدوا عدداً كبيرا من الليبراليين، من ذوي الكفاءات الكبيرة، قد انصرفوا هناك إلى الحط من شأن الحكومة. والنتيجة، دون شك، هي أن الميول العامة تجنح لدرجة كبيرة نحو حزب العمال، وهي لا تجنح نحو الليبراليين الذين هم خارج حزب العمال، بل نحو حزب العمال، وهذا ما تظهره الانتخابات الجزئية».

ونقول، عرضا، أن هذه المحاججة تظهر على الخصوص كيف يصاب حتى أذكى رجال البرجوازية بالاختلال، فلا يستطيعون أن يتجنبوا اقتراف حماقات مستعصية على العلاج. وفي هذا هلاك البرجوازية. أمّا رجالنا فبامكانهم حتى أن يرتكبوا الحماقات (طبعاً، شريطة ألاّ تكون كبيرة جداً، وأن تصلح في حينها) ومع ذلك فإنهم، في آخر الأمر، لمنتصرون.

والمستند السياسي الآخر، هو المحاجة التالية للشيوعية «اليسارية» الرفيقة سيلفيا بانكهورست:

«… الرفيق إينكبين (أمين سر الحزب الاشتراكي البريطاني) يسمي حزب العمال «المنظمة الرئيسية لحركة الطبقة العاملة». وهناك رفيق آخر من الحزب الاشتراكي البريطاني أبان في مجلس الأممية الثالثة العام عن رأي الحزب الاشتراكي البريطاني بعبارة أقوى، إذ قال «إننا ننظر إلأى حزب العمال بوصفه طبقة العمال المنظمة»

نحن لا ننظر إلى حزب العمال هذه النظرة. إن حزب العمال كبير جداً بعدد أعضائه، وإن كان قسم كبير منه خامدين، وهؤلاء هم رجال ونساء من العمال أنضموا إلى النقابات بسبب أن زملاءهم في الورشة أعضاء في النقابات، ثم لكي يتلقوا الإعانات.

لكننا نعترف بأن كثرة عدد أعضاء حزب العمال سببها كذلك هو أن هذا الحزب وليد مدرسة فكرية لم تتجاوزها أكثرية الطبقة العاملة البريطانية بعد، رغم التبدلات العظيمة الآخذة في التكون في أذهان الشعب الذي سيغير هذا الوضع عمّا قريب…».

«…إن حزب العمال البريطاني شأنه شأن منظمات الاشتراكيين-الوطنيين في البلدان الأخرى، سيصل حتما، في مجرى تطور المجتمع الطبيعي، إلى الحكم. وواجب الشيوعيين هو أن يوحدوا القوى التي ستطيح بالاشتراكيين-الوطنيين ويجب علينا في بلادنا ألاّ نرجئ هذا الأمر ولا نتردد فيه.

يجب علينا ألاّ نعتبر طاقتنا بزيادة حزب العمال قوة على قوة، فوصوله إلى الحكم أمر محتوم. ويجب أن نركز قوانا لإيجاد حركة شيوعية تقهر هذا الحزب. إن حزب العمال سيشكل الوزارة عمّا قريب ويجب على المعارضة الثورية أن تكون على أهبة الاستعداد لمهاجمتها…».

وهكذا تتخلى البرجوازية الليبرالية عن نظام «الحزبين» (حزبي المستثمرين)، النظام التاريخي الذي اسبغت عليه تجربة القرون طابعاً والمفيد أقصى الفائدة للمستثمرين، معتبرة أن الاتحاد بين هاتين القوتين ضروري من أجل مكافحة حزب العمال. وهناك قسم من الليبراليين يهرع نحو حزب العمال كجرذان هاربة من سفينة تغرق. والشيوعيون اليساريون يعتبرون انتقال السلطة إلى حزب العمال أمراً لا مناص منه. ويعترفون بأن أكثرية العمال الآن سائرة في أثره. ولكنهم يصلون هنا إلى استنتاج غريب، تصوغه الرفيقة سيلفيا بانكهورست بالصيغة التالية:

«(.*)». «يجب على الحزب الشيوعي أن لا يقوم بأية مساومة… ويجب عليه أن يحافظ على مذهبه نقياً، وعلى استقلاله غير منقوص إزاء الأفكار الإصلاحية، إن رسالته هي أن يسير قدما إلى الأمام، دون وقفة أو انعطاف، في طريق مستقيم، نحو الثورة الشيوعية».

بالعكس، فمن واقع كون أكثرية العمال في إنجلترا لا يزال تتبع أمثال كرينسكي أو شيدمان الإنجليز، وأنها لم تحصل بعد على خبرة من الحكومة التي يشكلها هؤلاء الأشخاص، تلك الخبرة التي اقتضاها الأمر سواء في روسيا أو في ألمانيا لانتقال جماهير العمال إلى جانب الشيوعية، من هذا الواقع يستنتج دون أي شك، أن الشيوعيين الانجليز يجب عليهم أن يساهموا في البرلمانية، ويجب عليهم أن يساعدوا، من داخل البرلمان، جماهير العمال على أن ترى ثمار حكومة هندرسون وسنودن، كما يجب عليهم أن يساعدوا هندرسون وسنودن ومن لف لفهما ليقهروا اتحاد لويد جورج وتشرتشل. وأي تصرف آخر يعني تعسير قضية الثورة، إذ ما لم تتغير آراء أكثرية الطبقة العاملة لا يمكن أن تقوم الثورة، وهذا التغير توجده التجربة السياسية عند الجماهير، ولا توجده الدعاية وحدها بحال من الأحوال. فلو أن أقلية من العمال باد ضعفها ترفع شعار «إلى الأمام بدون مساومات، ولا انعطاف عن الطريق» ثم هي تعرف (أو على كل حال يجب أن تعرف) أنه في حالة انتصار هندرسون وسنودن على لويد جورج وتشرتشل، ستنفظ الأكثرية، بعد زمن قليل، يدها من زعمائها، وتأخذ في مساندة الشيوعية (أو على كل حال تلتزم إزاء الشيوعيين حياداً يتسم في الغالب بحسن النية) إذ ذاك يكون خطل هذا الشعار بينا. إن مثل هذا مثل عشرة آلاف جندي يزجون في معركة ضد خمسين ألفاً من الأعداء، في حين ينبغي «التوقف» و«العروج عن الطريق»، وحتى افقدام على «مساومة»، حتى يصل المئة ألف جندي المأمول وصولهم كمدد، إلاّ أنهم غير قادرين في التو على الدخول في المعركة. ليست هذه خطة جدية للطبقة الثورية، وإنما هي من صبيانيات المثقفين.

إن قانون الثورة الأساسي الذي اثبتته جميع الثورات وخاصة جميع الثورات الروسية الثلاث في القرن العشرين يتلخص فيما يلي: لا يكفي من أجل الثورة أن تدرك الجماهير المستثمرة والمظلومة عدم إمكانية العيش على الطريقة القديمة وأن تطالب بتغييرها. إن من الضروري أيضاً لأجل الثورة أن يغدو المستثمرون غير قادرين على العيش والحكم بالطريقة القديمة. إن الثورة لا يمكن أن تنتصر إلاّ عندما تعزف «الطبقات الدنيا» عن القديم، وعندما تعجز «الطبقات العليا» عن السير وفق الطريقة القديمة. ويمكن تبيان هذه الحقيقة بكلمات أخرى، ونعني أن الثورة مستحيلة بدون أزمة وطنية عامة (تشمل المستثمَرين والمستثمِرين معاً). وذلك يعني أنه من أجل الثورة، ينبغي أولاً التوصل إلى جعل أكثرية العمال (أو على كل حال أكثرية العمال الواعين المفكرين والنشيطين سياسياً) مدركة كل الإدراك ضرورة الانقلاب، ومستعدة للمضي إلى الموت في سبيله. ثانياً، أن تعاني الطبقات الحاكمة من أزمة حكومية تجذب إلى حلبة السياسة حتى أكثر الجماهير تأخراً (إن علامة أية ثورة حقيقية هي أن عد ممثلي الجماهير الكادحة والمستثمرة والخاملة حتى ذلك الحين، الذين بوسعهم أن يشنوا الكفاح السياسي، يتصاعد بسرعة إلى عشرة أضعاف بل إلى مئة ضعف) فتوهم الحكومة وتجعل إسقاطها السريع أمراً ممكنا للثوريين.

ففي إنجلترا يتبين، فيما يتبين، من خطاب لويد جورج بالذات، أن هذين الشرطين من شروط الثورة البروليتارية الموفقة آخذان في التوفر بشكل جلي. وأخطاء الشيوعيين اليساريين هي الآن على الخصوص خطرة جداً، لأن موقف بعض الثوريين إزاء كل من هذين الشرطين غير متبصر فيه للحد الكافي، وغير دقيق الدقة الكافية، وغير واع للحد الكافي ولم يحسب الحساب اللازم. فإذا كنا نحن حزب الطبقة الثورية، لا فريقا ثورياً، وإذا كنا نريد جر الجماهير وراءنا (الأمر الذي يمكن بدونه أن نغدو مجرد ثرثارين) يكون من الواجب علينا، أولاً، أن نساعد هندرسون أو سنودن على سحق لويد جورج وتشرشل (بل أن نحمل الأولين على سحق الآخرين، لأن الأولين يفزعان من انتصارهما!)؛ وثانيا، أن نساعد أكثرية الطبقة العاملة لكي تقتنع من تجربتها هي، بأننا على حق، أي أن تقتنع بعدم صلاح هندرسون وسنودن ومن لف لفهما بالمرة، وتتيقن من طبيعتهم البرجوازية الصغيرة والمنطوية على الخيانة، وبحتمية إفلاسهم، وثالثاً، أن نقرب تلك اللحظة التي يمكن فيها، مع احتمالات جدية للنجاح، على أساس خيبة آمال أكثرية العمال بهندرسون ومن لف لفه، إسقاط حكومة هندرسون وشركاه رأسا، ذلك لأنه إذا كان ذلك البرجوازي الكبير، لا الصغير، لوي جورج الأدهى والأصلب تستولي عليه الحيرة التامة، فيزيد في إضعاف نفسه (والبرجوازية كلها) «بمناوشاته» بالأمس مع تشرشل واليوم «بمناوشاته» مع اسكويث، فإن حيرة حكومة هندرسون وأمثاله وجزعها سيكونان أدهى وأمر.

وسأقول بمزيد من الدقة. يجب على الشيوعيين الإنجليز، حسب رايي، أن يوحدوا جميع أحزابهم وفرقهم الأربع (وكلها ضعيفة جداً وبعضها في غاية الضعف) في حزب شيوعي واحد، على أساس مبادئ الأممية الثالثة، والاشتراك الإلزامي في البرلمان. وليعرض الحزب الشيوعي على هندرسون وسنودن ومن لف لفهما «مساومة»، اتفاقية انتخابية بالشلك التالي: دعنا نكافح سوية حلف لويد جورج والمحافظين، ولنقتسم المقاعد البرلمانية بنسبة عدد الأصولت الانتخابية بل بالتصويت الخاص) ثم لنحتفظ بكامل الحرية في التحريض والدعاية والنشاط السياسي. فبدون هذا الشرط الأخير، لا يجوز، بالطبع، الدخول في كتلة، لأن ذلك سيكون خيانة. يجب على الشيوعيين الانجليز إطلاقا أن يذودوا ويدفعوا عن الحرية التامة في أمر فضح هندرسون وسنودن ومن لف لفهم، كما كان يذود عنها البلاشفة الروس (طوال خمسة عشر عاماً، من سنة ١٩٠٣ إلى ١٩١٧) ونجحوا في الذود عنها حيال نظائر هندرسون وسنودن ومن لف لفهما في روسيا، أي المناشفة.

فإذا قبل هندرسون وسنودن ومن اليهما الدخول في كتلة على هذه الشروط، نكون قد ربحنا، إذ نحن لا يهمنا أبداً عدد المقاعد في البرلمان ولا نسعى وراء الحصول على المقاعد، ونحن سنكون متساهلين في هذه النقطة (أمّا هندرسون وأقرانه، وخاصة أصدقاؤهم الجدد، أو سادتهم الجدد، من الليبراليين الذين التحقوا بحزب العمال المستقل، فهم أشد اهتماما بالحصول على المقاعد). سنكون الرابحين، لأننا سنبث تحريضنا نحن بين الجماهير في وقت يكون فيه لويد رورج نفسه قد «أهاجها»، وسوف لا نقتصر على مساعدة حزب العمال ليؤلف حكومة باسرع وقت، بل وسنساعد الجماهير في أن تفهم بأسرع ما يمكن دعايتنا الشيوعية التي سنقوم بها غير منقوصة ودون تحفظ ضد هندرسون وأمثاله.

وأمّا إذا رفض هندرسون وسنودن ومن اليهما الدخول في كتلة معنا على هذه الشروط فيكون ربحنا أكبر من ذلك، لأننا سنري الجماهير في الحال (لاحظوا أن جمهور الأعضاء حتى في حزب العمال المستقل، الحزب المنشفي الصرف، والانتهازي تماماً، يؤيد السوفييتات) إن هندرسون ومن لف لفه يفضلون تقاربـهم مع الرأسماليين على اتحاد جميع العمال. سنربح رأسا أمام الجماهير، التي ستؤازر فكرة اتحاد جميع العمال ضد لويد جورج مع المحافظين، خاصة بعد إيضاحات لويد جورج الساطعة للغاية والمفبدة كل الفائدة (للشيوعية). وسنربح رأساً، لأننا سنظهر أمام الجماهير أن هندرسون وسنودن ومن لف لفهما يخشون الانتصار على لويد جورج، ويخشون أخذ السلطة وحدهم، وأنهم يسعون ليحصلوا سراً على تأييد لويد جورج الذي يمد يده علناً نحو المحافضين ضد حزب العمال. وتنبغي الاشارة إلى أن دعاية البلاشفة ضد المناشفة والاشتراكيين-الثوريين (أي ضد أمثال هندرسون وسنودن من الروس) قد لاقت عندنا في روسيا بعد ثورة ٢٨ فبراير ١٩١٧ (حسب التقويم القديم) النجاح بحكم تلك الظروف ذاتها. فبقد كنا نقول للمناشفة والاشتراكيين-الثوريين: خذوا السلطة كلها دون أن تشركوا البرجوازيةفيها، لأن الأكثرية في السوفييتات معكم (ففي مؤتمر السوفييتات الأول لعامة روسيا في يونيو ١٩١٧ كان البلاشفة يحرزون ١٣٪ من الأصوات لا أكثر). لكن أمثال هندرسون وسنودن من الروس خافوا أن يأخذوا السلطة بدون البرجوازية. فعندما كانت البرجوازية تسوف في انتخابات الجمعية التأسيسية، لعلمها جيدا بأن الأكثرية سيحرزها الاشتراكيون الثوريون والمناشفة[٢] (وقد كان أولئك وهؤلاء في كتلة سياسية متراصة، وكانوا يمثلون في الواقع الديموقراطية البرجوازية الصغيرة وحدها) إذ ذاك لم يستطع الاشتراكيون-الثوريون والمناشفة أن يناضلو بنشاط وحتى النهاية ضد هذا التسويف.

عند امتناع هندرسون وسنودن ومن لف لفهما عن الدخول في كتلة مع الشيوعيين، يكسب الشيوعيون في الحال عطف الجماهير فيحطون من شأن هندرسون وسنودن ومن لف لفهما، وإذا فقدنا من جراء ذلك بعض الكراسي البرلمانية فليس هذا، في نظرنا، أمر ذي بال أبداً. إننا سنقدم مرشحينا في عدد محدود جدا من الدوائر الانتخابية المعول عليها كل التعويل، أي في المناطق التي لا يؤدي تقديم مرشحينا فيها إلى فوز الليبرالي على اللايبوري (عضو حزب العمال). إننا سنقوم بدعاية انتخابية وسنوزع نشرات في صالح الشيوعية وندعو، في جميع الدوائر التي لم نقدم فيها مرشحينا، إلى التصويت من أجل مرشح حزب العمال ضد مرشح البرجوازية. وستكون الرفيقة سيلفيا بانكهورست والرفيق غالاجر على خطأ إذا هما اعتبرا هذا الأمر خيانة في حق الشيوعية أو امتناعاً عن النضال ضد الاشتراكيين الخونة. بالعكس، إن في ذلك ربحاً تربحه دون شك قضية الثورة الشيوعية.

إن من العسير في أغلب الأوقات على الشيوعيين الانجليز الآن حتى أن يقتربوا من الجماهير، أو حتى أن يجعلوها تصغي إليهم. فلو انبريت أنا، كشيوعي، وأعلنت أني أدعو للتصويت من أجل هندرسون ضد لويد جورج، لأصغوا إلي حتماً. ولأمكنني كذلك أن أشرح بلغة مفهومة السبب في أن السوفييتات أفضل من البرلمان، وأن ديكتاتورية البروليتاريا خير من ديكتاتورية تشرشل (المتسترة بيافطة «الديموقراطية» البرجوازية)، وفضلا عن ذلك، أن أشرح وأقول، أني أردت بتصويتي لهندرسون أن أسنده على غرار ما يسند الحبل الرجل المشنوق. ذلك أن اقتراب هندرسون وأمثاله من الحكومة التي يشكلونها بأنفسهم، يثبت أني على حق، كما يجر الجماهير إلى جانبي ويجعل في موت هندرسون وسنودن وأمثالهما موتا سياسياً كما حدث ذلك لأقرانهم في روسيا وألمانيا.

وإذا اعترض معترض أن هذه هي خطة «مراوغة» للغاية أو معقدة جداً، وأن الجماهير لا تفهمها، وأنها تشق قوانا وتعثرها، وتمنع تركيزها من أجل ثورة سوفييتية وما إلى ذلك، فإني سأجيب «اليساريين» المعترضين قائلاً: لا تَعْزوا عقائديتكم الجامدة إلى الجماهير! فمن الأرجح أن الجماهير في روسيا لم تكن أكثر ثقافة، بل أقل ثقافة منها في إنجلترا. ومع ذلك فهمت الجماهير البلاشفة، فواقع أن البلاشفة قد قدموا في سبتمبر سنة ١٩١٧، عشية الثورة السوفييتية، قوائم مرشحيهم إلى البرلمان البرجوازي (الجمعية التأسيسية)، وأنهم في اليوم التالي بعد الثورة السوفييتية، في نوفمبر سنة ١٩١٧ اشتركوا في الانتخابات إلى هذه الجمعية التأسيسية التي حلوها هم أنفسهم في ٥ يناير سنة ١٩١٧، إن هذا الواقع لم يعرقل البلاشفة، وإنما ساعدهم.

إني لا أستطيع هنا معالجة نقطة الخلاف الثانية بين الشيوعيين الإنجليز، بصدد انضمامهم أو عدم انضمامهم أو عدم انضمامهم إلى حزب العمال، إذ أن عندي القليل جدا من المواد بصدد هذه المسألة التي هي مسألة معقدة للغاية، بحكم طابع التفرد الخارق الذي يسم «حزب العمال» البريطاني، الحزب الذي قلما يشبه من حيث تركيبه الأحزاب السياسية العادية الموجودة في القارة الأوروبية. وعلى كل، فما لا ريب فيه، أولاً، أنه في هذه المسألة أيضا سيقع في الخطأ كل من يريد أن يضع للبروليتاريا الثورية تكتيكاً سيقع في الخطأ كل من يريد أن يضع للبروليتاريا الثورية تكتيكا يستخلصه من مبادئ من أمثال: «يجب على الحزب الشيوعي أن يحافظ على مذهبه نقياً، وعلى استقلاله غير منقوص إزاء الأفكار الإصلاحية؛ إن رسالته هي أن يسير في الطليعة، دون وقفة أو إنعطاف، في طريق مستقيم نحو الثورة الشيوعية». لأن مثل هذه المبادئ ليست إلاّ تكرارا لخطأ البلانكيين الكومونيين الفرنسيين، الذين أعلنوا في سنة ١٨٧٤ «الرفض» لكل مساومة ولكل محطة انتقالية. ولا ريب، ثانيا، أن المهمة هنا أيضا، كما هي على الدوام، تتلخص في معرفة تطبيق المبادئ العامة والأساسية للشيوعية، على ذلك التفرد في العلاقات الخاصة بين الطبقات والأحزاب، وعلى خصائص التطور الموضوعي نحو الشيوعية بدراسته واكتشافه واستشفافه.

ولكن هذا لا يرتبط بالشيوعية الانجليزية وحدها، وإنما يرتبط بالاستنتاجات العامة المتعلقة بتطور الشيوعية في جميع البلدان الرأسمالية. ولنقل الآن إلى هذا الموضوع.





[١] يظهر أن هذا الحزب يعارض الانضمام إلى «حزب العمال» ولكن أعضاءه ليسوا كلهم ضد الاشتراك في البرلمان.

[٢] في انتخابات الجمعية التأسيسية في روسيا، وقد جرت في نوفمبر ١٩١٧، حصل البلاشفة، حسب الإحصاءات التي تشمل أكثر من ٣٦ مليون ناخب، على ٢٥٪ من الأصوات، وحصلت مختلف احزاب الملاكين العقاريين والبرجوازية على ١٣٪، وحصلت الديموقراطية البرجوازية الصغيرة، أي الاشتراكيين-الثوريين والمناشفة والفرق الصغرى القريبة إليهم على ٦٢٪ من الأصوات.

        

مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية

الفصل العاشر

بعض الاستنتاجات


كشفت ثورة سنة ١٩٠٥ البرجوازية في روسيا عن انعطاف أيل للغاية في التاريخ العالمي. ففي بلد من أكثر البلدان الرأسمالية تأخراً بلغت الحركة الإضرابية، لأول مرة في العالم، من السعة والقوة ما لم يشاهد له مثيل. ففي الشهر الأول وحده من سنة ١٩٠٥، زاد عدد المضربين عشرة أضعاف على المعدل السنوي للسنوات العشر السابقة (١٨٩٥-١٩٠٤)، ومن شهر يناير حتى أكتوبر سنة ١٩٠٥، تصاعدت الاضرابات باستمرار وبلغت مقاييس ضخمة. فتحت تأثير سلسلة من الظروف التاريخية المتميزة تماما. كانت روسيا المتأخرة أول بلد كشف للعالم تصاعد مبادرات الجماهير المظلومة، تصاعد يجري في زمن الثورة بشكل قفزات (وقد حدث هذا في جميع الثورات الكبرى)، وليس ذلك وحسب، بل وكشفت ما للبروليتاريا من أهمية تزيد زيادة غير محدودة عن نسبتها العددية من السكان، والجمع بين الاضرابات الاقتصادية والسياسية، مع تحويل الأخيرة إلى انتفاضة مسلحة، ونشوء شكل جديد للنضال الجماهيري والتنظيم الجماهيري للطبقات المضطهدة من قبل الرأسمالية، ونعني السوفييتات.

إن ثورتي فبراير وأكتوبر لسنة ١٩١٧ قد أدتا إلى تطور السوفييتات تطوراً شاملاً على النطاق الوطني، ثم ان انتصارها في الانقلاب البروليتاري الاشتراكي. ثم بعد أقل من سنتين ظهر الطابع الأممي للسوفييتات، وانتشر هذا الشكل من النضال والتنظيم في الحركة العمالية العالمية، وبانت رسالة السوفييتات التاريخية كحفار قبر للبرلمانية البرجوازية ووارث وخلف لها وللديموقراطية البرجوازية بوجه عام.

وفضلا عن ذلك، يظهر تأريخ حركة العمال اليوم، ان أمام هذه الحركة في جميع البلدان نضالاً (وقد بدأ فعلاً) بالدرجة الأولى بين الشيوعية المترعرعة والآخذة في القوة والسائرة نحو النصر، وبين «منشفيتها» الخاصة (في كل بلد بمفردها)، أي الانتهازية والاشتراكية-الشوفينية، ذلك أولاً، وثانيا، ولنقل كأمر إضافي – بينها وبين الشيوعية «اليسارية». فالنضال الأول قد نشب في جميع البلدان دون استثناء، كما يظهر، كنضال بين الأممية الثانية (التي قد قتلت اليوم في الواقع) وبين الأممية الثالثة. والنضال الآخر يمكن ملاحظته سواء في ألمانيا أو بريطانيا أو إيطاليا أو أمريكا (وعلى اقل تقدير، إن قسماً معينا من «عمال العالم الصناعيين» والتيارات الفووية السنديكالية يذود عن أغلاط الشيوعية اليسارية إلى جانب اعترافه بالنظام السوفييتي اعترافا يكاد يكون عاما وتاماً) وفي فرنسا (موقف قسم من السنديكاليين السابقين من الحزب السياسي ومن البرلمانية يقترن أيضاً بالاعتراف بالنظام السوفييتي) ويعنني ذلك، دون شك، أن هذا النضال لا يجري في النطاق الأممي وحسب، بل وفي النطاق العالمي كله.

ومع أن حركة العمال في كل مكان تجتاز، من حيث جوهر الأمر، مدرسة واحدة تمهيدية للانتصار على البرجوازية، تتطور هذه الحركة في كل بلاد حسب طريقتها الخاصة. هذا وان البلدان الرأسمالية المتقدمة الكبرى تطوي هذا الطريق أسرع بكثير جدا من البلشفية التي أمهلها التاريخ خمسة عشر عاما لتهيئ نفسها كتيار سياسي منظم من أجل النصر. لقد احرزت الأممية الثالثة خلال فترة وجيزة جدا، أي خلال سنة، نصرا حاسما، وسحقت الأممية الثانية الصفراء الاشتراكية-الشوفينية، التي كانت لبضعة أشهر خلت، أقوى، بما لا يقاس، من الأممية الثالثة، والتي كانت تبدو وطيدة وذات جبروت، وكانت تتمتع بمساعدة البرجوازية العالمية مساعدة شاملة، مباشرة وغير مباشرة، مادية (كالمناصب الوزارية، وجوازات السفر والصحف) وفكرية.

وتتلخص القضية الآن في أن على الشيوعيين في كل بلاد أم يأخذوا بالحسبان، بمنتهى الوعي، المهام المبدئية الأساسية للنضال ضد الانتهازية العقائدية «اليسارية» وكذلك الخصائص الملموسة التي يتخذها هذا النضال والتي يجب أن يتخذها في كل بلاد على حدة، تبعا للخصائص المميزة التي تسم اقتصادها وسياستها وثقافتها وتركيبها القومي (ارلنده، وغيرها) ومستعمراتها تقسيماتها الدينية، وهلم جرا الخ. في كل مكان يبرز عدم الرضا في الأممية الثانية ويتسع وينمو، وذلك سواء بسبب انتهازيتها أو بسبب أنها ليست لديها القدرة أو القابلية لإيجاد مركز مكثف حقاً، وقيادي حقاً، وكفء لتوجيه تكتيك البروليتاريا الثورية العالمي في نضالها من أجلجمهورية سوفييتية عالمية. إن من الضروري أن ندرك بجلاء أن مثل هذا المركز القيادي لا يمكن بأية حال أن نوجده على أساس قولبة القواعد التكتيكية للنضال وتسويتها وتوحيدها بصورة جامدة. فما دامت الفوارق من حيث القوميات والدول موجودة بين الشعوب والبلدان، وهذه الفوارق ستبقى زمنا طويلا وطويلا جدا، حتى بعد تحقيق ديكتاتورية البروليتاريا في النطاق العالمي، فإن وحدة التكتيك العالمي للحركة العمالية الشيوعية في جميع البلدان لا تتطلب إزالة التنوع، ولا استئصال الفوارق القومية (الأمر الذي ليس في اللحظة الراهنة إلاّ أضغاث أحلام)، بل تتطلب تطبيق المبدئين الأساسيين للشيوعية (السلطة السوفييتية وديكتاتورية البروليتاريا) بشكل يعدل بصورة صحيحة هذين المبدئين، في الجزئيات ويجعلهما يتلائمان وينسجمان بصورة صحيحة مع الفوارق القومية والفوارق بين الدول. إن الواجب الرئيسي في اللحظة التاريخية التي تجتازها جميع البلدان المتقدمة (وليس المتقدمة وحدها) هو استقصاء ودراسة وتمحيص واستقراء واستيعاب المميزات القومية والخصائص القومية في الأساليب الملموسة التي يتخذها كل بلد لحل المهمة الأممية الواحدة، وللانتصار على الانتهازية والعقائدية اليسارية في داخل الحركة العمالية، ولاسقاط البرجوازية، وتأسيس الجمهورية السوفييتية وديكتاتورية البروليتاريا. والأمر الرئيسي – وطبعا لا نقصد جميع الأمور، كلا وأبدا بل الأمر الرئيسي – قد سبق أن تحقق باجتذاب طليعة الطبقة العاملة، واستمالتها إلى جانب السلطة السوفييتية ضد البلمانية، وإلى جانب ديكتاتورية البروليتاريا ضد الديموقراطية البرجوازية. والآن ينبغي تركيز جميع القوى وكل الانتباه على الخطوة التالية، التي تبدو أقل أهمية – من بعض وجهات النظر – ولكنها بدل ذلك، أقرب، من الناحية العملية، إلى حل المهمة حلاً عمليا، ونعني إيجاد أشكال الإنتقال إلى الثورة البروليتارية أو الإقتراب منها.

لقد تم كسب الطليعة البروليتاريا فكريا. وهذا أمر رئيسي، بدونه تستحيل حتى الخطوة الأولى نحو الإنتصار. لكن الشقة بين هذا الأمر وبين الانتصار لا تزال بعيدة جداً. إذ لا يمكن الانتصار بقوى الطليعية وحدها. والزج بالطليعة وحدها في معركة حاسمة، قبل أن تكون الطبقة كلها والجماهير الواسعة قد اتخذت أمّا موقف التأييد المباشر للطليعة وأمّا، على أقل تقدير، موقف حياد يتسم بالنية الطيبة تجاهها، بحيث تكون غير قادرة أبداً على تأييد عدو الطليعة، لا يكون حماقة وحسب، بل جريمة أيضا. ولكيما تتخذ الطبقة كلها فعلاً، وجماهير الكادحين الواسعة فعلاً، ويتخذ المضطهدون من قبل الرأسمالية، مثل هذا الموقف، لا تكفي الدعاية وحدها، ولا التحريض وحده. ينبغي لذلك أيضا أن يكون لهذه الجماهير تجربتها السياسية الخاصة. هذا هو القانون الأساسي لجميع الثورات الكبرى، وقد أثبتته الآن روسيا وفضلا عنها ألمانيا بقوة وجلاء مدهشين. لم يكن الأمر ليتطلب من الجماهير الروسية غير المثقفة والأمية في الأغلب وحدها، بل كان الأمر يتطلب من الجماهير المثقفة تثقيفا عاليا والمتعلمة كلها في ألمانيا أيضا، أن تلمس بتجاربها المرة كل عجز حكومة فرسان الأممية الثانية وكل ميوعتها، وكل وهنها وكل خنوعها أمام البرجوازية، وكل دناءتها، وكل حتمية ديكتاتورية الرجعيين المتطرفين (كورنيلوف في روسيا وكاب وشركاه في ألمانيا) باعتبارها البديل الوحيد عن ديكتاتورية البروليتاريا، لكيما تتجه تلك الجماهير بصورة قاطعة نحو الشيوعية.

إن المهمة المباشرة التي تواجهها الطليعة الواعية من الحركة العمالية العالمية، أي الأحزاب والفرق والتيارات الشيوعية، هي أن تكون قادرة على سوق الجماهير الواسعة (التي لا تزال في معظم الحالات هاجعة، بليدة الحس، مقيدة بالروتين، هامدة، جامدة) نحو هذا الوضع الجديد، أو على الأصح، ان تكون قادرة على قيادة حزبها، وليس حزبها فقط، بل هذه الجماهير أيضا، خلال اقترابها من هذا الوضع الجديد، وانتقالها لإليه. فإذا كان انجاز المهمة التاريخية الأولى (أي جذب الطليعة الواعية من البروليتاريا إلى جانب السلطة السوفييتية وديكتاتورية الطبقة العاملة) غير ممكن بدون الانتصار الناجز على الانتهازية والاشتراكية-الشوفينية إنتصارا فكريا وسياسيا، فإن المهمة الثانية، التي تغدو الآن مهمة مباشرة، والتي هي عبارة عن القدرة على قيادة الجماهير نحو الموقع الجديد الذي يضمن انتصار الطليعة في الثورة، لا يمكن إنجازها بدون استئصال العقائدية اليسارية، وبدون التغلب على اخطائها بصورة تامة وتجنب هذه الأخطاء.

وما دام الحديث يدور حول جذب طليعة البروليتاريا إلى جانب الشيوعية (وبمقدار ما يظل الحديث دائرا عن ذلك)، فإن الدعاية تشغل المقام الأول. وحتى الحلقات، مع جميع معايبها، تكون مفيدة هنا وتعطي نتائج مثيرة. ولكن عندما يدور الحديث عن نشاط الجماهير العملي، وعن المرابطة (إذا جاز هذا التعبير)، مرابطة الجيوش ذات الملايين، وعن توزيع جميع القوى الطبقية لمجتمع معين من أجل المعركة النهائية الفاصلة، إذ ذاك لا يعود محض الاعتياد على الدعاية، ولا محض ترديد حقائق الشيوعية «الخالصة» بأية جدوى. إذ ذاك ينبغي على المرء ألاّ ينشغل بحساب الألوف، كما يفعل ذلك في الواقع، الدعاية، العضو في الزمرة الصغيرة التي لم تتول قيادة الجماهير بعد، فهنا لا ينبغي فقط أن نسائل أنفسنا عما إذا كنا قد اقنعنا طليعة الطبقة الثورية أم لا، بل وكذلك عما إذا كانت القوى ذات التأثير التاريخي عند جميع الطبقات، في مجتمع معين، دون استثناء أية طبقة على الإطلاق، قد شغلت مكانها بشكل ينبئ بأن كل شيء جاهز للمعركة الفاصلة بحيث: ١) تكون معه جميع القوى الطبقية المعادية لنا قد ارتبكت لدرجة كافية، في صراع فوق طاقاتها، ٢) وتكون جميع العناصر المتذبذبة والمتأرجحة وغير الثابتة والواقفة بين بين، أي البرجوازية الصغيرة، الديموقراطية البرجوازية الصغيرة، خلافا للبرجوازية، قد فضحت نفسها لدرجة كافية أمام الشعب، وتجللت بالعار لدرجة كافية بإفلاسها العملي، ٣)ويكون قد بدأ بين البروليتاريا نزوع جماهيري آخذ بالتصاعد بقوة تأييدا للأعمال الثورية الأشد حزما، والأمضى جنانا، ضد البرجوازية. إذ ذاك تكون الثورة قد أزف حينها، ويكون انتصارنا مضمونا إذا ما حسبنا بدقة كل الشروط التي ذكرناها وشرحناها بإيجاز أعلاه، وإذا ما اخترنا اللحظة المناسبة.

إن الخلافات فيما بين تشرشل ولويد جورج ونظائرهما، من جهة – فالشخصيات السياسية من طرازهما موجودة في جميع البلدان، مع بعض الفوارق القومية الطفيفة – ثم فيما بين هنديرسون ولويد جورج ومن اليهما، من الجهة الأخرى، هي خلافات غير ذات أهمية بالمرة، وغير ذات شأن من وجهة نظر الشيوعية الخالصة، أي المجردة، أي الشيوعية التي لم تنضج بعد للنشاط السياسي الجماهيري العملي. وأما من وجهة نظر نشاط الجماهير العملي هذا، فإن لهذه الخلافات أهمية بالغة قصوى. فإن كل مهمة وكل واجب شيوعي الذي لا يريد أن يكون مجرد داعية واع ذي مبدأ وإيمان، بل يريد أن يكون أيضا قائدا عمليا للجماهير في الثورة، يتلخصان في مراعاة هذه الخلافات وفي استشفاف لحظة نضوج النزاعات المحتومة التام بين هؤلاء «الأصدقاء»، التي تضعف جميع «الأصدقاء» معاً وتوهنهم. ينبغي الجمع بين الاخلاص الشديد لمبادئ الشيوعية وبين القدرة في الإقدام على جميع المساومات العملية الضرورية، والمناورات والتوفيق واللف والدوران والتراجع وما إلى ذلك، لكيما يجعل في مجيء وزوال السلطة السياسية لهندرسون وأمثاله (أي أبطال الأممية الثانية، إذا كنا لا نريد أن نذكر أسماء الأشخاص الذين يمثلون ديموقراطية البرجوازية الصغيرة، ويدعون أنفسهم إشتراكيين) ويعجل في إفلاسهم، الذي لا مناص منه، في الواقع العملي، الأمر الذي ينير أذهان الجماهير وفقا لأفكارنا بالذات، ويوجهها نحو الشيوعية بالذات، ويجعل من التماحك الذي لا محيد عنه والمشاجرات والنزاعات والنفور التام بين هندرسون ولويد جورج وتشرشل ومن اليهم (المناشفة والاشتراكيين الثوريين والكاديت والملكيين، الشيدمانيين والبرجوازيين أنصار كاب والخ.) واختار اللحظة المناسبة، التي يكون فيها النفور بين جميع «أساطين الملكية الخاصة المقدسة» هؤلاء قد بلغ أقصى حدوده، وذلك من أجل هزمهم جميعا وأخذ السلطة السياسية بهجوم فاصل تشنه البروليتاريا.

إن التاريخ بوجه عام، وتاريخ الثورات بوجه خاص، لهو على الدوام أغنى بالمضامين وأكثر تنوعا وشمولا وأنيض بالحياة و«أكثر روغانا» مما تتصوره أحسن الأحزاب وأكثر الطلائع وعيا من أكثر الطبقات تقدما. وذلك أمر مفهوم، لأن أفضل الطلائع إنما تعرب عن وعي وإرادة عشرات الألوف وعن عواطفهم وتخيلاتهم، بينما تتحقق الثورات في لحظات تفجر جميع الطاقات البشرية وتوترها لدرجة كبيرة، وهي تتحقق بوعي وإرادة وعواطف وتخيلات عشرات الملايين المدفوعة بأحد صراع بين الطبقات. وهنا ينبثق استنتاجان عمليان على غاية من الأهمية: الأول، انه يجب على الطبقة الثورية، من أجل تحقيق مهمتها أن تتضلع بجميع أشكال النشاط الاجتماعي ونواحيه دون استثناء (وبعد الاستيلاء على السلطة السياسية، أن تنجز، أحيانا، بمجازفات كبيرة وأخطار جسيمة، ما لم تنجزه قبل الاستيلاء عليها) والثاني، أنه يجب على الطبقة الثورية أن تكون على استعداد لتنتقل، بأتم السرعة والمفاجأة، من شكل إلى شكل آخر.

يتفق الجميع على أن الجيش الذي لا يعد نفسه لاتقان استخدام جميع أنواع الأسلحة وجميع وسائل وأساليب الكفاح الموجودة أو التي يمكن أن توجد عند العدو، إنما يسلك سلوكا طائشا بل وإجراميا. وهذا الأمر ينطبق على السياسة أكثر من انطباقه على الشؤون العسكرية نفسها. إذ ان من الأصعب في السياسة أن نتنبأ سلفا أية من وسائل الكفاح ستكون في الظروف المعينة القادمة مناسبة مفيذة لنا. وما لم نتقن جميع وسائل الكفاح فإننا قد نتكبد هزيمة كبرى، بل وأحيانا هزيمة فاصلة، إذا ما حدثت تغيرات بشكل من اشكال النشاط نحن فيه ضعفاء لدرجة كبيرة. وأمّا إذا تضلعنا في جميع وسائل الكفاح، فإننا، ما دمنا نمثل مصالح الطبقة التقدمية حقاً والثورية حقاً، سننتصر يقينا، حتى فيما إذا كانت الظروف لا تسمح لنا بإشهار السلاح الذي هو أشد خطرا على العدو وأسرع في إنزال الضربات المميتة به. إن الثوريين غير المجربين كثيرا ما يعتقدون أن طرق النضال العلنية هي طرق انتهازية، لأن البرجوازية في هذا المضمار قد خدعت العمال كثيرا جدا واستحمقتهم (خالصة في العهود «السلمية»، غير الثورية)، وان الطريق السرية للنضال هي طريقة ثورية. ولكن هذا غير صحيح. أمّا الصحيح فهو أن الانتهازيين وخونة الطبقة العاملة هم تلك الأحزاب واولئك الزعماء الذين لم يستطيعوا أو لم يريدوا (لا تقل: لا أستطيع، بل قل: لا أريد) استخدام الطرق السرية للنضال في ظروف كالتي سادت، مثلا، خلال حرب سنوات ١٩١٤-١٩١٨ الامبريالية حينما كانت البرجوازية في أكثر البلدان حرية وديموقراطية تخدع العمال بوقاحة وقسوة بالغتين، وتمنع قول الحقيقة عن طابع الحرب الإغتصابي. أمّا الثوريون الذين لا يستطيعون الجمع بين أشكال النضال السرية وبين جميع الأشكال العلنية، فهم ثوريون طالحون بالمرة. ليس من الصعب أن يكون المرء ثوريا عندما تكون الثورة قد اندلعت واستعر أورها، عندما يلتحق بالثورة كل واحد، أمّا اندفاعا وراء الأحاسيس، أو اقتفاء للموضة، أو حتى أحيانا من أجل مصالح وصولية شخصية. و«الخلاص» من هؤلاء الثوريين المنحوسين سيكلف البروليتاريا فيما بعد، بعد انتصارها، جهودا شاقة للغاية وآلاما مبرِّحة. ولكن ما هو أصعب من ذلك بكثير، وما له قيمة أكثر جداً، هو أن يكون المرء ثوريا عندما لا تكون الظروف موجودة بعد للنضال المباشر المكشوف، للنضال الجماهيري حقا والثورة حقا، وان يستطيع الذود عن مصالح الثورة (عن طريق الدعاية والتحريض والتنظيم) وذلك في المؤسسات غير الثورية، وغالبا في المؤسسات الرجعية الصرف، وفي ظروف غير ثورية، وبين جماهير قاصرة عن أن تفهم في الحال ضرورة الطرق الثورية في العمل. إن المهمة الرئيسية التي تواجه الشيوعية المعاصرة في أوروبا الغربية وأمريكا هي القدرة على أن تجد وتتلمس وتعين بصورة صحيحة تلك الطريق الملموسة أو ذلك الانعطاف الخاص في الحوادث، الذي يسوق الجماهير إلى النضال الثوري الحقيقي الفاصل، إلى النضال النهائي العظيم.

لنأخذ مثلاً إنجلترا. إننا لا نستطيع أن نعرف، كما ليس في وسع أحد أن يحدد سلفاً، متى سيندلع هناك لهيب ثورة بروليتارية حقيقية، وأي باعث سيوقض قبل غيره الجماهير الواسعة جداً، والراقدة حاليا، ويلهبها ويدفعها للنضال. ولذلك نحن ملزمون بأن نقوم بكل نشاطنا التمهيدي بشكل نكون معه متحفزين وقد انعلنا القوائم الأربع (وهو الاصطلاح الذي كان الراحل بليخانوف مولعا به، عندما كان ماركسيا ثوريا). إن من الممكن أن يحدث «صدع» وأن «ينحطم الجليد» بأزمة برلمانية، زمن الممكن أن تسفر عن هذا أزمة ناشئة عن التناقضات الامبريالية والاستعمارية المتشابكة للغاية والتي تزداد إيلاما وتفاقما، كما من الممكن أن يؤدي إلى ذلك عامل ثالث وهلم جراً. نحن لا نتحدث هنا عن نوع النضال الذي سيقرر مصير الثورة البروليتارية في إنجلترا (فما من شيوعي يخامره الشك في هذه المسألة، فهي محلولة لنا جميعا حلا قاطعاً)، إنما نتحدث عن ذلك الباعث الذي سيوقظ الجماهير البروليتارية التي لا تزال راقدة الآن، ويدفعها للحركة ويسوقها مباشرة نحو الثورة. ولا ننس مثلاً أنه في ظل الجمهورية البرجوازية الفرنسية، وفي أحوال دولية وداخلية أقل ثورية من الخال الحاضر بمئة مرة، أصبح كافيا باعث «مفاجئ» و«طفيف» هو واحد من ألوف الألوف من المكائد الدينية التي تصنعها الطغمة العسكرية الرجعية (قضية دريفوس)، ليضع الشعب على شفير حرب أهلية!

يجب على الشيوعيين في إنجلترا أن يستفيدوا على الدوام ودون فتور أو انحراف من الانتخابات البرلمانية، ومن كل تقلبات سياسة الحكومة البريطانية إزاء إرلنده والمستعمرات وعلى الصعيد الامبريالي العالمي، ومن كل الميادين الأخرى وسائر نواحي الحياة الاجتماعية وجوانبها، وان لا يعملوا في جميعها بالطريقة الجديدة، بالطريقة الشيوعية، وان لا يعملوا بروح الأممية الثانية، بل بروح الأممية الثالثة. ليس لدي هنا لا الوقت ولا المجال اللازمين لأصف الأساليب «الروسية»، «البلشفية» للإشتراك في الانتخابات البرلمانية وفي النضال البرلماني، إلاّ أنه بوسعي أن أؤكد للشيوعيين في الخارج بأن هذا الأمر لا يشبه الحملات البرلمانية المعتادة في أوروبا الغربية بشيء أبداً. ولكن من ذلك كثيرا ما يستخلص هذا الاستنتاج: «حسناً، ذلك ما كان عندكم، في روسيا، أمّا عندنا، فالبرلمانية على غير ذلك». هذا الاستنتاج غير صحيح. فالشيوعيون، أنصار الأممية الثالثة في جميع الأقطار. مدعوون بالذات لأن يغيروا ويحولوا النشاط البرلماني الاشتراكي، التريديونيوني، السنديكالي القديم في جميع الاتجاهات وفي جميع ميادين الحياة إلى نشاط جديد، شيوعي. لقد وجدت كذلك في انتخاباتنا على الدوام ولدرجة كبيرة جداً، عناصر إنتهازية وبرجوازية صرف ومضاربة وعناصر رأسمالية نصابة. يجب على الشيوعيين في أوروبا الغربية وفي أمريكا أن يتعلموا كيف ينشئون برلمانية جديدة غير عادية وغير انتهازية وغير وصولية، لكيما يستطيع حزب الشيوعيين أن يطرح شعاراته، والبروليتاريون الحقيقيون أن ينشروا ويوزعوا المناشير بمساعدة الفقراء المضطهدين غير المنظمين وأن يزوروا بيوت العمال وأكواخ البروليتاريين الريفيين والفلاحين في القرى النائية (ولحسن الحظ أن هذه القرى النائية هي في أوروبا أقل بكثير مما عندنا، وأمّا في انجلترا فهي قليلة للغاية) وأن يترددوا على أبسط المشارب الشعبية، وينفذوا في الاتحادات الشعبية البسيطة والجمعيات الإجتماعية العفوية الشعبية، وأن يتحدثوا مع الشعب، ولكن لا بلغة العلماء (ولا بلغة برلمانية جداً)، وعليهم أن لا يتزاحموا أبدا على «الكراسي» البرلماني، بل أن عليهم في كل مكان أن يوقضوا الأذهان، ويجتذبوا الجماهير ويدينوا البرجوازية من فمها، ويستفيدوا من جهازها الذي أوجدته، وانتخاباتها التي نظمتها، ونداءاتها التي أصدرتها للشعب كله، وأن يعرفوا الشعب البلشفية كما لم يحدث أن تعرف بهاأبداً (أثناء سيطرة البرجوازية) في غير فترات الانتخابات (ما عدا، طبعا، لحظات الاضرابات الكبيرة، عندما كان مثل هذا الجهاز الشعبي العام للتحريض يعمل في بلادنا بجهد أكبر). والقيام بهذا العمل في أوروبا الغربية وأمريكا أمر مجهد للغاية وعسير جداً، ولكن القيام به أمر ممكن وواجب، إذ يبذل من أجل حل المسائل العملية التي يزداد تنوعها باستمرار ويزداد باستمرار ارتباطها مع جميع نواحي الحياة الاجتماعية، والتي تؤدي باستمرار إلى انتزاع فرع بعد آخر وميدان بعد آخر من أيدي البرجوازية.

وفي انجلترا ذاتها يجب كذلك أن تقوم أعمال الدعاية والتحريض والتنظيم بين وحدات الجيش والقوميات المظلومة والمهضومة في دولتـ«ها» (ارلنده والمستعمرات) على طريقة جديدة (غير اشتراكية، بل شيوعية، غير اصلاحية، بل ثورية). لأن جميع ميادين الحياة الاجتماعية هذه في عهد الامبريالية عموما، والآن خصوصا، أي بعد الحرب التي نكبت الشعوب وتفتح بسرعة عيونها على الحقيقة (وهذه الحقيقة هي أنه قتل وشوه عشرات الملايين من الناس من أجل حل مسألة من الذي سيمعن في نهب عدد أكبر من البلدان، الضواري الانجليز أم الألمان) أجل، إن جميع ميادين الحياة الاجتماعية هذه قد تكدست فيها خصوصا مواد قابلة للاشتعال، وتتكون فيها بواعث وفيرةجداً للمنازعات والأزمات واشتداد النضال الطبقي. ونحن لا نعرف ولا يمكننا أن نعرف أية شرارة من تلك الشرارات غير المتناهية والمتطايرة الآن في جميع البلدان، بتأثير الأزمة الاقتصادية والسياسية العالمية، ستضرم نيران الحريق، ونعني انهاض الجماهير بقوة. ولذلك نحن ملزمون بأن نعمل وفق مبادئنا الجديدة الشيوعية على «تكييف» جميع المجالات، حتى أكثرها قدماً وصدأ وحتى، في الظاهر، أدعاها لليأس، إذ بدون ذلك سوف لا نؤدي مهمتنا على الوجه المطلوب، ولا بكون محيطين بكل الجوانب، وسوف لا نتقن استعمال جميع أنواع السلاح ولا نكون على استعداد للانتصار على البرجوازية (التي بنت جميع نواحي الحياة الاجتماعية على النمط البرجوازي، أمّا الآن فقد اخلت بها على نفس النمط)، ولا على استعداد لتجديد تنظيم الحياة كلها تنظيما شيوعيا بعد ها الإنتصار.

بعد الثورة البروليتارية في روسيا، وانتصارات هذه الثورة في النطاق الدولي، – وهي انتصارات مفاجئة للبرجوازية وللتافهين الضيقي الأفق –، غدا العالم كله الآن عالماً آخر، كما أصبحت البرجوازية في كل مكان غير ما كانت. فقد أصابها الرعب من «البلشفية»، وضغنت عليها إلى حد الجنون، ولذلك بالذات فهي، من جهة، تزيد في سرعة تطور الحوادث، ومن الجهة الأخرى توجه كل اهتمامها إلى قمع البلشفية بالعنف، وبذلك تضعف موقعها هي في سلسلة من المجالات الأخرى. يجب على الشيوعيين في جميع البلدان المتقدمة أن يأخذوا في تكتيكهم كلتا هاتين الحالتين بعين الاعتبار.

عندما كان الكاديت الروس وكرينسكي يشنون على البلاشفة حملاتهم المسعورة، خاصة منذ أبريل سنة ١٩١٧، وأشد من ذلك في يونيو ويوليوز سنة ١٩١٧، فقد كانوا يفرطون في ذلك ويتجاوزون الحد. لقد كانت ملايين النسخ من الجرائد البرجوازية تزعق ضد البلاشفة بمختلف الأنغام، وبذلك ساهمت في جلب الجماهير إلى تقييم البلشفية، وبفضل هذه «الحماسة» التي بذلتها البرجوازية كانت الحياة الاجتماعية كلها، فضلاً عن الجرائد، تكتنفها المجادلات حول البلشفية. واليون أيضا يسلك أصحاب الملايين في جميع البلدان، وعلى النطاق العالمي، سلوكا يتوجب علينا أن نكون شاكرين لهم عليه من الصميم. فهم يحكمون على البلشفية بمثل تلك الحماسة التي أظهرها كيرنسكي وشركاه، وهم أيضا يفرطون في ذلك ويتجاوزون الحد وبذلك يساعدوننا على غرار كرينسكي. عندما تجعل البرجوازية الفرنسية من البلشفية النقطة الأساسية في دعايتها الانتخابية، وتتهم الاشتراكيين المعتدلين نسبياً أو النتأرجحين بالبلشفية، وعندما تفقد البرجوازية الأمريكية الصواب بالمرة، فتقبض على الألوف والألوف من الناس بتهمة البلشفية، وتوجد جواً من الذعر، وتذيع في كل مكان أقاصيص عن مؤامرات بلشفية، وعندما ترتكب البرجوازية الانجليزية، أكثر البرجوازيات «وقاراً» في العالم مع كل ما لها من عقل وتجربة، حماقات لا يمكن تصديقها، وتؤسس أغنى «الجمعيات لمكافحة البلشفية»، وتصدر أدبيات خاصة حول البلشفية، وتستكري لمكافحة البلشفية مزيدا من العلماء والدعاة والقسس، اذ ذاك يتوجب علينا أن نحني رؤوسنا ونشكر السادة الرأسماليين. فهم يعملون لصالحنا، وهم لا يستطيعون أن يسلكوا غير هذا السلوك، إذ أنهم قد فشلوا في «تجاهل» البلشفية وخنقها.

ولكن في الوقت ذاته، ترى البرجوازية تقريبا جانباً واحداً فقط من البلشفية، ونعني به الانتفاض والعنف والارهاب، ولذلك فهي تسعى لأعداد نفسها، بوجه خاص، للصد والمقاومة في هذا المضمار. ومن المحتمل أن تفلح البرجوازية في ذلك في بعض الحالات وفي بعض البلدان وفي فترات قصيرة من الزمن؛ وهذا الاحتمال ينبغي أن يؤخذ بعين الاعتبار؛ فإذا ما وفقت هي فسوف لا يكون ذلك مرعبا لنا على الإطلاق. إن الشيوعية «تنبعث» من جميع نواحي الحياة الاجتماعية إطلاقا ونبتاتها موجودة إطلاقا في كل مكان. وهذه «العدوى» (إذا ما أردنا استعمال الاصطلاح المفضل «المستساغ» للغاية عند البرجوازية والشرطة البرجوازية) قد نفذت نفوذاً تاماً في الجسم فتشبع بها كليا. فلو «سد» أحد المنافذ بمنتهى الدقة، وجدت «العدوى» لها منفذا آخر، يكون في بعض الأحيان غير متوقعا أبداً. إن الحياة تفعل فعلها. دع البرجوازية تتخبط، ونذهب في غيظها إلى حد الجنون، وتتجاوز المقاييس، وتقترف الحماقات، وتأخذ ثأرها من البلاشفة سلفا، وتسعى أكثر لتقتل (في الهند والمجر وألمانيا وغيرها) المئات والألوف ومئات الألوف من بلاشفة الغد أو الأمس، فالبرجوازية بسلوكها هذا تفعل ما فعلته جميع الطبقات التي حكم عليها التاريخ بالفناء. يجب على الشيوعيين أن يعرفوا أن المستقبل لهم في جميع الأحوال، ولذا فبإمكاننا (بل ويجب علينا) أن نجمع بين حماستنا الشديدة في النضال الثوري العظيم وبين التقدير السليم الرزين للتخبطات المسعورة التي تقترفها البرجوازية. لقد حطموا الثورة الروسية سنة ١٩٠٥ بقسوة، وهزموا البلاشفة الروس في يوليوز سنة ١٩١٧، وقتلوا أكثر من ١٥٠٠٠ شيوعي ألماني نتيجة مؤامرة غادرة ومناورة ماكرة من جانب شيدمان ونوسكه بالاتفاق مع البرجوازية والجنرالات الملكيين. وفي فنلنده والمجر يطغو ارهاب أبيض –ومع ذلك فإن الشيوعية في جميع الأحوال وفي جميع البلدان تتصلب وتنمو، وإنما تزيدها قوة. ولا ينقصنا إلاّ أمر واحد لكيما نسير بمزيد من الاطمئنان والثبات قدماً نحو الانتصار، وهو أن يعي جميع الشيوعيين في جميع البلدان وعيا شاملاً وعميقاً للغاية، أن من الضروري أن يكونوا مرنين في تكتيكهم أقصى درجات المرونة. ان الشيوعية النامية بشكل رائع، في البلدان المتقدمة على الأخص، يعوزها اليوم هذا الوعي وتعوزها القدرة على الاستفادة من هذا الوعي في التطبيق.

إن ما حدث لأمثال كاوتسكي وأوتو باور وغيرهما من زعماء الأممية الثانية العلماء النحارير في الماركسية والغيورين على الإشتراكية، يمكن (بل يجب) أن يكون درسا مفيداً. فقد أدركوا أتم الإدراك ضرورة التكتيك المرن، وتعلموا وعلموا الآخرين ديالكتيك ماركس (والكثير مما وضعوه في هذا الصدد سيبقى على الدوام قسطا ثمينا في مؤلفات الاشتراكية)، إلاّ أنهم ارتكبوا في تطبيق هذا الديالكتيك أخطاء وأية أخطاء أو قل أنهم اثبتوا أنفسهم في العمل غير ديالكتيكيين، وأظهروا أنفسهم عاجزين عن أن يحسبوا الحساب للتغير السريع في الأشكال، وامتلاء الأشكال القديمة السريع بالمضامين الجديدة إلى حد أن مصيرهم ليس أدعى للغبطة من مصير هايندمان وغيد وبليخانوف إلاّ قليلاً. إن السبب الرئيسي لإفلاسهم هو أنهم «افتتنوا» بشكل واحد معين لنمو حركة العمال والاشتراكية، ونسوا أنه ذو جانب واحد، وكانوا يخافون أن ينظروا إلى ذلك الانعطاف الحاد الذي إذا محتوما بحكم الظروف الموضوعية، واستمروا يرددون الحقائق البسيطة المحفوظة التي تبدو، للوهلة الأولى، مفروغاً منها، مثل ثلاثة أكثر من اثنين. ولكن السياسة أكثر شبهاً بالخبز منها بالحساب، بل فوق ذلك أكثر شيها بالرياضيات العالية منها بالرياضيات الابتدائية. وفي الواقع امتلأت جميع الأشكال القديمة للحركة الاشتراكية بمضامين جديدة، ولذا ظهرت أمامالأعداد علامة جديدة، علامة «ناقص»، أمّا جهابدتنا فقد استمروا بعناد (ولا يزالون مستمرين) في اقناع أنفسهم والآخرين بأن («ناقص ثلاثة») أكبر من «ناقص إثنين».

يجب أن نسعى لكي لا يكرر الشيوعيون ذات الخطأ من الجانب الآخر، أو، على الأصح، يجب أن نسعى لنصلح بأسرع وأقصر وقت ممكن، وبأقل الأيلام للجسم ذات الخطأ الذي يرتكبه، ولكن من الجانب الآخر، الشيوعيون «اليساريون». إن العقائدية اليسارية خطأ كالعقائدية اليمينية. وبديهي أن خطأ العقائدية اليسارية في الشيوعية لهو، في اللحظة الراهنة، أقل خطرا وأصغر بألف مرة من خطر العقائدية اليمينية (أي الاشتراكية-الشوفينية والكاوتسكية)، غير أن ذلك فقط بسبب أن الشيوعية اليسارية تيار حديث بالمرة وناشئ لتوه. ولهذا السبب فقط، يمكن، في ظروف معينة، معالجة المرض بسهولة، كما أن من الضروري المبادرة إلى علاجه بأقصى الجهد.

لقد انفجرت الأشكال القديمة، إذ ظهر أن المحتوى الجديد فيها، المحتوى المعادي للبروليتاريا والرجعي، قد بلغ درجة مفرطة في التطور. إن لعملنا اليوم، من وجهة نظر تطور الشيوعية العالمية، محتوى وطيداً، قويا، جبارا للعمل (من أجل السلطة السوفييتية وديكتاتورية البروليتاريا) لدرجة أن هذا المحتوى يستطيع بل ولا بد له أن يتجلى يأي شلك كان، جديد وقديم، كما أنه يستطيع، بل ولا بد أن يحيل جميع الأشكال، القديمة منها والجديدة، وأن يتغلب عليها ويخضعها. وذلك لا من أجل التهادن مع الأشكال القديمة، بل من أجل التمكن من جعل جميع وشتى الأشكال، الجديدة منها والقديمة، أداة لانتصار الشيوعية انتصارا ناجزا نهائيا فاصلا لا ردة فيه.

يجب على الشيوعيين أن يبدلوا جميع جهودهم لتوجيه الحركة العمالية، والتطور الاجتماعي بوجه عام، في أقوم وأسرع طريق نحو الانتصار العالمي للسلطة السوفييتية ونحو ديكتاتورية البروليتاريا. هذه حقيقة لا تقبل الجدل. ولكن يكفي أن نخطو خطوة صغيرة إلى أبعد، ظاهرها أنها في ذات الإتجاه، حتى تتحول الحقيقة الى خطأ. يكفي أن نقول كما يقول الشيوعيون اليساريون الألمان والانجليز أننا لا نعترف إلاّ بطريق واحد، بالطريق المستقيم، وأننا لا نجيز المناورات والتوفيق والمساومات، حتى نكون قد ارتكبنا خطأ بإمكانه أن يلحق أخطر الضرر بالشيوعية، وهو فعلا قد ألحق الضرر لحد ما، ولا يزال يلحقه. لقد تشبثت العقائدية اليمينية بالاعتراف بالأشكال القديمة وحدها، وهي قد أفلست نهائيا لأنها لم تلاحظ المحتوى الجديد. أمّا العقائدية اليسارية فتصر على انكار أشكال قديمة معينة إنكارا مطلقا، وهي لا ترى أن المحتوى الجديد يشق طريقه عبر جميع وشتى الأشكال، وأن من واجبنا كشيوعيين أن نتقن جميع الأشال، وأن نتعلم كيف نكمل شكلا ما بشكل آخر، وأن وأن نستبدل شكلا ما بغيره، وذلك في أقصى ما يمكن من السرعة، وأن نوفق بين تكتيكنا وبين كل استبدال كهذه لم تستدعه طبقيا ولا جهودنا.

إن أهوال الحرب الامبريالية العالمية وفظائعها وارجاسها، والحالة المستعصية التي أوجدتها قد دفعت الثورة العالمية وعجلتها بقوة جبارة. وان هذه الثورة العالمية وعجلتها بقوة جبارة. وان هذه الثورة تتطور سعة وعمقا وبسرعة خارقة ووفرة رائعة في الأشكال المتعاقبة، وهي تدحض عمليا وبشكل ناصع أية عقائدية، بحيث أن لدينا كل الأسس لنعول على شفاء الحركة الشيوعية العالمية شفاء عاجلاً وتاما من مرض «اليسارية» الطفولي في الشيوعية.

٢٨/٠٤/١٩٢٠





        

مرض "اليسارية" الطفولي في الشيوعية

ملحق


قبل أن تنتهي دور الطبع والنشر في بلادنا التي نهبها امبرياليو العالم كله، انتقاما من الثورة الامبريالية، ولا يزالون ينهبونها ويحاصرونها، رغم كل الوعود التي كالوها لعمالهم، أقول، قبل أن تنتهي دور الطباعة من مهمة طبع كراستي، وصلتني مواد إضافية من خارج البلاد وأنا سأطرق باختصار إلى بعض النقاط، دون أن أدعي بأن في كراستي شيئا أكثر من مذكرات عابرة لكتاب سياسي.

* * *


١. انشقاق الشيوعيين الألمان

إن إنشقاق الشيوعيين الألمان أمرا واقعاً. فقد شكل «اليساريون» أو «المعارضة المبدئية» حزبا خاصا هو «حزب العمال الشيوعي» تمييزا له عن «الحزب الشيوعي». وفي إيطاليا كذلك، تسير الأمور، حسب الظاهر، نحو انشقاق وشيك. وأقول: حسب الظاهر، لأن عندي عددين إضافيين فقط (٨ و٨) من الجريدة اليسارية «السوفييت» («Il Soviet») وفيها تناقش علنا مسألة إمكانية وضرورة الانشقاق، كما أن الحديث يدور كذلك حول مؤتمر كتلة «الممتنعين» (أو المقاطعين ونعني المناوئين للاشتراك في البرلمان)، الكتلة التي لا تزال حتى الآن جزءاً من الحزب الاشتراكي الإيطالي.

وقد يخشى من أن الانشقاق مع «اليساريين» والمناوئين للبرلمان (الذين هم لحد ما مناوئي السياسة وخصوم الأحزاب السياسية ومناهضي النشاط في النقابات) سيغدو ظاهرة عالمية، على غرار الانشقاق مع «الوسطيين» (أو الكاوتسكيين واللونغيتيين و«المستقلين» ومن اليهم). فليكن كذلك، فالانشقاق على كل حال أفضل من البلبلة التي تعيق سواء النمو الفكري والنظري والثوري للحزب ونضوجه، وتعيق كذلك نشاطه العملي المنسجم المنظم تنظيما حقيقيا الذي يمهد الطريق الحقيقي لديكتاتورية البروليتاريا.

دع «اليساريين» يمتحنون أنفسهم في العمل في النطاق الوطني والعالمي، دعهم يحاولون التمهيد لديكتاتورية البروليتاريا (ثم تحقيقها) بدون حزب ذي مركزية قوية وانضباط حديدية، وبدون القدرة على العمل في جميع مجالات النشاط السياسي والثقافي ونواحيه وجميع أنواعه وألوانه. إن التجربة العملية ستعلمهم سريعا.

ولكن ينبغي أن تبذل جميع الجهود كي لا يوجد الانشقاق مع «اليساريين» المصاعب، أو كي يوجد مقداراً أقل ما يمكن من المصاعب في طريق اندماج جميع العاملين في حركة العمال، ممن يسندون الحكم السوفييتي وديكتاتورية البروليتاريا بإخلاص ونزاهة، في حزب واحد، ذلك الاندماج الضروري والمتوقع حتما في مستقبل قريب. قبل التضال الجماهيري المباشر من أجل ديكتاتورية البروليتاريا كانت لديهم فرصة خمسة عشر عاماً شنوا فيها ضد المناشفة (أي الانتهازيين و«الوسطيين») وضد «اليساريين» على حد سواء نضالاً منظماً وأوصلوه إلى النهاية. ومن الواجب الآن في أوروبا وأمريكا أن ينجز هذا العمل ذاته «بخطوات متسارعة». هناك بعض الأفراد، وخاصة بين مدعي الزعامة الفاشيين، بإمكانهم (إذا كان يعوزهم روح الطاعة البروليتارية و«شرف النفس») أن يصروا على اخلاصهم زمنا طويلا. ولكن جماهير العمال تتحد هي نفسها بسهولة وسرعة، عندما تأزف الساعة، وتوحد جميع الشيوعيين المخلصين في حزب واحد قادر على إقامة النظام السوفييتي وديكتاتورية البروليتاريا[١].

٢. الشيوعيون والمستقلون في ألمانيا

لقد ابديت في الكراس رأيي بأن المساومة بين الشيوعيين والجناح اليساري للمستقلين أمر ضروري ونافع للشيوعية، لكن تحقيق ذلك سوف لا يكون أمراً سهلاً. واعداد الجرائد التي تلقيتها فيما بعد قد أكدت الأمرين. ففي العدد رقم ٣٢ في «العلم الأحمر»، لسان حال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الألماني ("Die Rote Fahne", Zentralorgan der Kommunistischen Partei Deutschland , Spartakusbund) الصادرة في (٢٦/٠٣/١٩٢٠) نشر «بيان» للجنة المركزية هذه بصدد مسألة «البوتش» العسكري (وهو مؤامرة أو مغامرة) الذي قام به كاب ولوتفيتز وبصدد «الحكومة الاشتراكية». وهذا البيان صحيح كل الصحة، سواء من وجهة نظر المقدمة الأساسية أو من وجهة نظر النتيجة العملية. فالمقدمة الأساسية تتلخص في أنه لا يوجد «أساس موضوعي» لديكتاتورية البروليتاريا في اللحظة الراهنة، لأن «أكثرية عمال المدن» تؤيد المستقلين. أمّا النتيجة فهي وعد باتخاذ موقف «معارضة أمنية» (أو ما معناه ترك الاستعداد «لاسقاط قسري») تجاه الحكومة «الاشتراكية في حالة إخراج الأحزاب البرجوازية الرأسمالية منها».

فالتكتيك من حيث الأساس صحيح دون شك. ولكن إذا كان لا يقتضي أن نتوقف عند التفاصيل غير الدقيقة من الصيغة، فإن كان من غير الجائز أن نمسك عن الكلام، ولا نقول أنه من غير الجائز أن تسمى حكومة الاشتراكيين الخونة (في بيان رسمي للحزب الشيوعي) حكومة «إشتراكية»، وان من غير الجائز التحدث عن إخراج «الأحزاب البرجوازية الرأسمالية»، في حين أن أحزاب شيدمان وأمثاله والسيدين كاوتسكي وكريسبين وأمثالهما هي أحزاب البرجوازية الصغيرة الديموقراطية، وأن من غير الجائز كتابة أشياء كالتي وردت في الفقرة الرابعة من البيان التي تنص بما يلي:

«… من أجل اطراد جذب الجماهير البروليتارية إلى جانب الشيوعية، تتسم بأهمية كبرى من وجهة نظر تطور ديكتاتورية البروليتاريا، حالة يمكن فيها أن يستفاد من الحرية السياسية دونما تقييد، كما لا يمكن فيها للديموقراطية البرجوازية أن تنبري كديكتاتورية لرأس المال…».

إن تلك الحالة لأمر مستحيل، فالزعماء البرجوازيون الصغار، أمثال هندرسون في ألمانيا (شيدمان وأمثاله) وأمثال سنودن (كريسبين ومن اليه) لا يخرجون ولا يستطيعون أن يخرجوا من اطار الديموقراطية البرجوازية التي لا يمكنها بدورها إلاّ أن تكون ديكتاتورية رأس المال. لم تكن هناك حاجة أبدا لكتابة هذه الأشياء الخاطئة مبدئيا والمضرة سياسيا من وجهة نظر الحصول على النتيجة العملية التي كانت لجنة الحزب الشيوعي المركزية تسعى إليها بصورة صحيحة تماما. كان يكفي من أجل ذلك أن يقال (إذا أريد اتباع المجاملات البرلمانية): انه ما دامت أكثرية عمال المدن تسير في أثر المستقلين، فإننا، نحن الشيوعيين، لا نستطيع أن نمنع هؤلاء العمال من نبذ آخر أوهامهم عن الديموقراطية البرجوازية الصغيرة (أو ما معناه كذلك «الأوهام البرجوازية الرأسمالية»)، وذلك عن طريق تجربة حكومتـ«هم». وهذا ما يكفي لتبرير المساومة، التي هي ضرورية في الواقع، والتي يجب أن تتلخص في الامتناع لزمن معين عن محاولات اسقاط الحكومة بالعنف، الحكومة التي تتمتع بثقة أكثرية عمال المدن. وأمّا في التحريض الجماهيري اليومي، غير الداخل في إطار المجاملات الرسمية، البرلمانية، فيمكن طبعا أن نضيف ما يلي: دع الأنذال من شاكلة شيدمان والتافهين الضيقي الأفق من أشكال كاوتسكي وكريسبين يفضحون أنفسهم في العمل ويظهرون مبلغ خداعهم لأنفسهم وللعمال. إن وزارتهم «النظيفة» ستقوم «أنظف من الجميع» بعمل «تنظيف» اصطبلات أوجياس الاشتراكية والاشتراكية الديموقراطية وما اليها من أنواع اشتراكية الخيانة.

لقد ظهرت مرة أخرى، إبان الفتنة الكورنيلوفية الألمانية، أي إبان انقلاب السيدين كاب ولوتفيتز، الجبلة الحقيقية لزعماء «الحزب الاشتراكي-الديموقراطي الألماني المستقل» الحاليين (أولئك الزعماء الذين يقال فيهم، عن غير حق، أنهم قد فقدوا كل نفوذ لهم، والذين يقال فيهم، عن غير حق، أنهم قد فقدوا كل نفوذ لهم، والذين هم، في الواقع، أكثر خطرا على البروليتاريا من الاشتراكيين-الديموقراطيين المجربين الذين سموا أنفسهم شيوعيين، ووعدوا «بتأييد» ديكتاتورية البروليتاريا)[٢]. وهناك مقالان صغيران يعطيان صورة مصغرة بهذا الصدد، بيد أنها صورة بارزة، احدهما لكارل كاوتسكي وعنوانه «لحظات فاصلة» («Entscheidende Stunden») نشر في «Freiheit» («الحرية»، لسان حال المستقلين) في ٣٠ مارس سنة ١٩٢٠، والآخر لأرثور كريسبين وعنوانه «حول الوضع السياسي» (نشر في الجريدة نفسها في ١٤ ابريل ١٩٢٠). إن هذين السيدين عاجزين بالمرة عن التفكير والاستدلال على غرار الثوريين، انهما ديموقراطيان برجوازيان صغيران بكاءان، بحيث لو اعلنا نفسيهما نصيرين للحكم السوفييتي ولديكتاتورية البروليتاريا لكان ذلك أخطر على البروليتاريا بألف مرة، لأنهما في الواقع سيرتكبان الخيانة، ولا مناص، في كل لحظة عصيبة خطرة… بينا يعتقدان «باخلاص» أنهما يساعدان البروليتاريا! أفلم يرد الاشتراكيون-الديموقراطيون المجريون الذين عمدوا أنفسهم باسم الشيوعيين أن «يساعدوا» كذلك البروليتاريا، عندما رأوا، لفرط جبنهم وميوعتهم، أن وضع الحكم السوفييتي في المجر لا أمل فيه، فأخذوا ينوحون أمام عملاء راسماليي وجلادي دول الوفاق.

٣. توراتي وشركاه في إيطاليا

إن عددي الجريدة الإيطالية «السوفييت» المشار غليهما أعلاه، يثبتان تماماً ما قلته في كراسة عن خطأ الحزب الاشتراكي الإيطالي، إذ يتحمل بقاء هؤلاء الأعضاء في صفوفه، وحتى مثل هذه الزمرو من البرلمانيين. ويثبت ذلك أكثر، ما أورده محايد، كمراسل الجريدة الانجليزية البرجوازية الليبرالية «The Manchester Guardian» («المانشستر غارديان») في روما الذي نشر في العدد المؤرخ ١٢ مارس ١٩٢٠ حديثه مع توراتي.

كتب هذا المراسل: «… يرى السنيور توراتي أن خطر الثورة ليس بالدرجة التي تستدعي قلقاً لا داعي له في إيطاليا. والمكسيماليون انما يلعبون بنار النظريات السوفييتية لكي يحتفظوا بالجماهير متيقظة وهائجة لا أكثر. وأمّا هذه النظريات فليست إلاّ مجرد مفاهيم خيالية، ومناهج مبتسرة، لا تصلح للتطبيق العملي. وهي تصلح فقط لابقاء الطبقات الكادحة في حالة الانتظار. وأمّا الأشخاص الذين يستعملونها كطعم يخطفون به أبصار البروليتاريا فيجدون أنفسهم مضطرين لأن يخوضوا كفاحا يوميا من أجل الحصول على بعض التحسينات الاقتصادية، الطفيفة في الغالب، وذلك لارجاء تلك اللحظة التي ستفقد فيها الطبقات الكادحة أوهامها وإيمانها بأساطيرها المحبوبة, هذا هو باعث هذه السلسلة الطويلة من الاضرابات المختلفة المقاييس والمختلفة الذرائع، بما فيها الاضرابات الأخيرة لعمال البريد والسكك الحديدية، الاضرابات التي تزيد وضع البلاد الشاق سواءا على سوء. فالبلاد في هياج من جراء المصاعب الناشئة من مسألة الأدرياتيك، وهي مرهقة بدينها الخارجي وبتضخم العملة فيها، ومع ذلك فهي لم تدرك بعد أبداً ضرورة اتباع الطاعة في العمل، تلك الطاعة التي باستطاعتها وحدها أن تعيد النظام والرفاه…»

واضح كالشمس، أن النراسل الانجليزي قد أفضى بالحقيقة التي يظهر أن توراتي نفسه وحماته والمتواطئين معه وملقنيه البرجوازيين في إيطاليا يكتمونها ويزوقونها. وهذه الحقيقة هي أن أفكار السادة توراتي، وتريفيس، وموديلياني، ودوغوني وشركاهم، وكذلك اعمالهم السياسية، هي في الواقع وبالضبط، كتلك التي وصفها المراسل الإنجليزي. إنها اشتراكية الخيانة بعينها. اليكم فقط هذا الدفاع عن النظام والطاعة للعمال المأجورين في العبودية، والكادحين من أجل أرباح الرأسماليين‍ كم هي مألوفة لنا، نحن الروس، هذه الأحاديث المنشفية‍ وأية بلادة وابتذال برجوازي يتجليان في عدم فهم الدور الثوري للاضرابات المتسعة بصورة عفوية‍ أجل، إن مراسل الجريدة الانجلييزية الليبرالية الإنجليزية قد قدم خدمة معكوسة للسادة توراتي وشركاه، وأكد بسطوع صحة طلب الرفيق بورديغا وأصدقائه في جريدة «السوفييت» المطالبين من الحزب الاشتراكي الإيطالي، فيما إذا أراد عمليا تأييد الأممية الثالثة، أن يطرد من صفوفه السادة توراتي وشركاه طردا مشيناً، وأن يصبح سواء باسمه أو بأفعاله حزبا شيوعيا.

٤. نتائج غير صحيحة من مقدمات صحيحة

ولكن الرفيق بورديغا وأصدقاءه «اليساريين» يخلصون من انتقادهم الصحيح للسادة توراتي وشركاه إلى نتيجة غير صحيحة، مفادها أن الاشتراك في البرلمان بوجه عام أمر مضر. إن «اليساريين» الايطاليين لا يستطيعون أن يوردوا دلائل جدية ولا شبه جدية في الدفاع عن هذا الرأي. إنهم يجهلون، لا أكثر ولا أقل، (أو يسعون لينسوا) الأمثلة العالمية للاستفادة من البرلمان البرجوازي، استفادة ثورية وشيوعية حقاً، ومفيذة في أمر التحضير للثورة البروليتارية فائدة لا جدال فيها. إنهم لا يتصورون مطلقا طريقة «جديدة» للاستفادة من البرلمان، ولذا يردّدون دون انقطاع صراخهم ضد الطريقة «القديمة» غير البلشفية للاستفادة من البرلمانية.

وذلك هو خطأهم الجذري. يجب على الشيوعية، لا في الميدان البرلماني وحده، بل وفي جميع ميادين النشاط أن تدخل شيئا ما جديدا من الناحية المبدئية (وهذا لا يتم بدون جهد مديد دائب عنيد)، شيئا يصرم الصلة جذريا بتقاليد الأممية الثانية (وفي الوقت نفسه يحافظ على جوانبها الحسنة ويطورها).

فلنأخذ على الأقل العمل الصحفي. إن الجرائد والكراسات والمناشير تؤدي عملاً ضرورياً للدعاية والتحريض والتنظيم. فما من حركة جماهيرية في أية بلاد متمدنة لحد ما تسنطيع أن تستغني عن جهاز الصحافة. وما من صخب ضد «الزعماء» ولا أية ايمان مغلظة بشأن صيانة طهارة الجماهير من نفوذ الزعماء،يمكن ان ينفي ضرورة ضرورة الاستفادة لهذا العمل، من أناس نشأوا في أوساط المثقفين البرجوازية، أو أن يخلص من المحيط البرجوازي الديموقراطي ومن جو «الملكية الخاصة»، الجو الذي يُنجز فيه هذا العمل في ظل الرأسمالية. إذ حتى بعد سنتين مضتا ونصف السنة على اسقاط البرجوازية، وبعد أخذ البروليتاريا السلطة السياسية، نشاهد نحن حولنا هذا الجو، وهذه العلاقات البرجوازية الديموقراطية، علاقات الملكية الخاصة بين الجماهير (جماهير الفلاحين والحرفيين).

البرلمانية هي شكل من أشكال العمل، والصحافة شكل آخر. إن محتوى هذين الشكلين يمكن، بل ويجب، أن يكون محتوى شيوعيا إذا كان نشطاء كلا الميدانين شيوعيين حقيقيين، وإعضاء حقيقيين في الحزب البروليتاري الجماهيري. ولكن سواء في ذلك الميدان أو هذا –وكذلك في أي مجال للعمل – لا يمكن، في ظل الرأسمالية، وعند الانتقال من الرأسمالية إلى الاشتراكية، تجنب تلك الصعوبات وتلك المهام الخاصة التي يجب على البروليتاريا أن تتغلب عليها وتبت فيها، للاستفادة ممن نشأوا في صفوف البرجوازية، في سبيل الانتصار على أوهام ونفوذ المثقفين البرجوازيين، ومن أجل إضعاف مقاومة محيط البرجوازية الصغيرة (وإصلاحه التام فيه بعد).

ألفم نشاهد نحن قبل سنوات ١٩١٤-١٩١٨، وفي جميع البلدان، أمثلة وافرة للغاية، من حملات الفوضويين «اليساريين» جداً، والنقابيين وأمثالهم على البرلمانية، واستهزائهم بالاشتراكيين البرلمانيين المتخلقين بصفات الابتذال البرجوازي، وتقريعهم أياهم لوصوليتهم والخ.، وهلجرا. بينما كانوا هم أنفسهم يحتالون عن طريق الصحافة، وعن طريق العمل في النقابات لبلوغ نفس المآرب الوصولية البرجوازية؟ أوليست أمثلة جوهو وميرهايم وغيرهما، لو اقتصرنا على فرنسا، أمثلة نموذجية؟

إن الصبيانية في «نفي» الاشتراك في البرلمان هي أنهم يريدون على وجه الضبط، بهذه الطريقة «البسيطة»، و«الهيّنة»، والمزعوم أنها ثورية، أن «يحلوا» المهمة الصعبة، مهمة النضال ضد النفوذ البرجوازي الديموقراطي داخل حركة العمال. أمّا في الواقع، فإنهم يهربون هرباً من ظلمهم ويطبقون عيونهم اطباقا على المصاعب، ويتهربون منها بالكلمات فقط. إن الوصولية بأوقح أشكالها والاستغلال البرجوازي للكراسي البرلمانية والتحوير الاصلاحي الصارخ للنشاط البرلماني، والروتين البرجوازي الصغير المبتذل، كل ذلك هو دون شك السمات العادية والغالبة التي توجده (والذي يتلاشى ببطء كبير حتى بعد اسقاط البرجوازية، بسبب أن الفلاحين يبعثون البرجوازية على الدوام) يولدان، في جميع ميادين العمل والحياة اطلاقا، نفس تلك الوصولية البرجوازية والشوفينية القومية والابتذال البرجوازي الصغير وغير ذلك مما هو في الجوهر واحد، وفي الشكل لا يختلف إلاّ شيئا يسيرا.

يخيل اليكم، أيها المقاطعون الأعزاء والمناوئون للبرلمان، أنكم «ثوريون رهيبون»؛ أمّا في واقع الأمر، فقد ارتعدت فرائصكم أمام مصاعب غير ذات شأن نسبيا من مصاعب النضال ضد نفوذ البرجوازية داخل حركة العمال، في حين أن انتصاركم، وأعني اسقاط البرجوازية واستيلاء البروليتاريا على السلطة السياسية، يوجد المصاعب هذه ذاتها بمقياس أكبر من ذلك وأوسع بكثير. لقد ارتعدت فرائصكم كالأطفال أمام الصعوبة الصغيرة التي تواجهكم اليوم، ولم تفهموا أنه لا بدّ لكم إذا وبعد غد أن تكملوا تثقيفكم، أن تتعلموا كيفية التغلب على هذه المصاعب ذاتها ولكن في مقاييس أوسع بما لا يحد.

في عهد الحكم السوفييتي يتسلل ربائب البرجوازية من المثقفين إلى حزبكم وحزبنا البروليتاري بمقياس أكبر. وهم يتغلغلون في السوفييتات وفي المحاكم والإدارات، إذ لا يمكن بناء الشيوعية بمواد أخرى غير المواد البشرية التي أوجدتها الرأسمالية، فلا يمكن طرد المثقفين البرجوازيين وإبادتهم، إنما ينبغي أيضا إعادة تنشئة البروليتاريا أنفسهم وذلك في نضال مديد وعلى أساس ديكتاتورية البروليتاريا. فالبروليتاريون أنفسهم لا يتركون أوهامهم البورجوازية الصغيرة فوراً ولا نمعجزة ولا بحكم من مريم العذراء، ولا بأمر م شعار، ولا بقرار أو مرسوم، وإنما بنضال جماهيري مديد عسير ضد نفوذ البرجوازية الصغيرة الجماهيري. إن تلك المهام التي يرميها الآن مناوئو البرلمان عن عواتقهم بحركة يد واحدة، وبمثل هذه العجرفة والكبرياء والنزق والصبيانية، إن تلك المهام تنبعث في العهد السوفييتي من جديد في داخل السوفييتات، وفي داخل الادارات السوفييتية وبين «الوكلاء الحقوقيين» السوفييتيين (لقد حطمنا نحن في روسيا نظام المحاماة البرجوازي، وتحطيمنا له كان عملا صائبا، إلاّ أنه ينبعث من جديد عندنا تحت يافطة «الوكلاء الحقوقيين» «السوفييتيين»). إننا نرى جميع تلك السمات السلبية، التي هي من صلب البرلمانية البرجوازية، تنبعث باستمرار بين المهندسين السوفييتيين والمعلمين السوفييتيين، وبين ذوي الامتياز من عمال المصانع السوفييتية، أي بين العمال ذويي الخبرة العالية والوضع الممتاز. وهذا الشر لا ننتصر عليه – انتصارا تدريجيا – إلاّ بنضال دائب لا يكل، نضال مديد عنيد للتنظيم البروليتاري والانظباط.

وبديهي أن يكون التغلب على العادات البرجوازية إبان سيطرة البرجوازية أمراً «صعباً» جداً في حزبنا الخاص، ونعني حزب الطبقة العاملة. وأن طرد الزعماء البرلمانيين المألوفين الذين أفسدتهم الأوهام البرجوازية لدرجة مستعصية أمر «صعب». وإخضاع ذلك العدد الضروري ضرورة مطلقة (,ليكن عدداً معينا محددا جدا) من ربائب البرجوازية للطاعة البروليتارية أمر «صعب». وايجاد كتلة شيوعية في البرلمان البرجوازي جديرة كل الجدارة بالطبقة العاملة أمر «صعب». وضمان جعل النواب الشيوعيين لا ينشغلون بالألاعيب البرلمانية البرجوازية، بل يصرفون همتهم في النشاط اللازم لزوماً مبرماً، في الدعاية والتحريض والتنظيم بين الجماهير أمر «صعب». ان كل ذلك، دون أخذ ورد، أمر «صعب»، وقد كان صعباً في روسيا، وهو أصعب، دون شك، في أوروبا الغربية وأمريكا، حيث البرجوازية أكثر رسوخاً والخ..

ولكن جميع هذه «المصاعب» ليست إلاّ الاعيب أطفال إذا قورنت بمهام من هذا النوع تماماً يجب حتماً على البروليتاريا أن تبت فيها، سواء من أجل انتصارها هي، أو في زمن الثورة البروليتارية، أو بعد أخذ البروليتاريا السلطة. فانشاء كتلة شيوعية حقا لحزب بروليتاري حقيقي، في البرلمان البرجوازي، في عهد سيطرة البرجوازية، لهو عمل صبياني سهل إزاء هذه المهام الهائلة في الواقع، المهام التي يتعين بموجبهافي عهد ديكتاتورية البروليتارياأن نعيد تنشئة الملايين من الفلاحين، وذوي الاستثمارات الصغيرة، ومئات الألوف من الموظفين، والمثقفين البرجوازيين، وأن نخضعهم جميعا للدولة البروليتارية وللقيادة البروليتارية، ونتغلب على عاداتهم وتقاليدهم البرجوازية.

فإذا كان الرفاق «اليساريون» ومناوئو البرلمان لا يتعلمون الآن كيفية التغلب حتى على مثل هذه الصعوبات الصغيرة، فإن بالإمكانت القول عن يقين، أنهم أمّا سيعجزون عن تحقيق ديكتاتورية البروليتاريا، ولن يستطيعوا في نطاق واسع أن يخضعوا ويصلحوا المثقفين البرجوازيين والمؤسسات البرجوازية، وأمّا أنه سيتحتم عليهم أن يتمموا معارفهم في استعجال، وبهذا الاستعجال سيعودون بضرر جسيم على قضية البروليتاريا، وسيرتكبون أخطاء تفوق المعتاد، ويظهرون ضعفا وعجزاً يتجاوز الحد المتوسط، وهلمجراً وقس على ذلك.

ما لم تسقط البرجوازية، ثم ما لم يتلاش الاستثمار الصغير والانتاج البضاعي الصغير بصورة تامة، فإن المحيط البرجوازي وعادات الملكية الخاصة، وتقاليد البرجوازية الصغيرة، ستفسد حتى ذلك الحين عمل البروليتاريا، سواء من خارج حركة العمال أو من داخلها، وستفسده لا في مجال واحد فقط من مجالات النشاط، أي المجال البرلماني، بل أيضا، ولا مناص، في جميع وشتى حقول النشاط الاجتماعي، وفي جميع الميادين الثقافية والسياسية دون استثناء. إن من أفحش الأخطالء التي يكلف ارتكابها ثمناً باهظاً أن يحاول المرء التملص من واحدة من هذه المهام «غير الرائقة» أو الصعبة في حقل ما من حقول العمل، وان يتسيج ضدها. يجب أن ندرس ونتعلم كيف نسيطر على جميع ميادين العمل والنشاط دون أي استثناء، وكيف نتغلب على جميع ميادين العمل والنشاط دون أي استثناء، وكيف نتغلب على جميع المصاعب وجميع العادات والتقاليد والشناشن البرجوازية في كل مكان. ووضع المسألة بشكل آخر ليس إلاّ تفاهة وصبيانية.

١٢/٠٥/١٩٢٠

٥.

في الطبعة الروسية لهذا الكتاب وصفت بصورة غير صحيحة بعض الشيء سلوك الحزب الشيوعي الهولندي ككل في حقل السياسة الثورية العالمية. ولذلك فإني أغتنم هذه الفرصة لأنشر أدناه ريالة رفاقنا الهولنديين بصدد المسألة، وأصحح اصلاح «المنبريون الهولنديون» الذي استعملته في النص الروسي، واستعيض عنه بهذه الكلمات «بعض أعضاء الحزب الشيوعي الهولندي».

ن. لينين




رسالة فاينكوف:

موسكو، ٣٠ يونيو ١٩٢٠.

عزيزي الرفيق لينين،

بفضل لطفكم، أتيح لنا نحن أعضاء الوفد الهولندي إلى مؤتمر الأممية الشيوعية الثاني، أن نطلع على كتابكم «مرض اليسارية الطفولي في الشيوعية» قبل نشر ترجمته إلى اللغات الأوروبية الغربية. لقد أكدتم في كتابكم هذا، عدة مرات، استهجانكم ذلك الدور الذي لعبه بعض اعضاء الحب الشيوعي الهولندي في السياسة الدولية.

ومع ذلك فإننا نرى واجبا علينا أن نحتج على وضعكم مسؤولية تصرفاتهم على الحزب الشيوعي. فهذا غير دقيق بالمرة. وأكثر من ذلك، فهو غير عادل، لأن هؤلاء الأعضاء في الحزب الشيوعي الهولندي يشتركون اشتراكا قليلا جداً أو أنهم لا يشتركون أبداً في النشاط البومي للحزب، ثم هم يحاولون، بصورة مباشرة، أن يطبقوا في الحزب الشيوعي شعارات معارضة، كان الحزب الشيوعي الهولندي ولا يزال حتى اليوم مع جميع هيئاته يشن عليها أنشط نضال.

تحيات أخوية
د ي. فاينكوب
(عن الوفد الهولندي)


كتب في أبريل ١٩٢٠
في كتاب على حدة،
في بتروغراد،
عن دار الدولة للطبع والنشر




[١] فيما يخص مسألة الاندماج في المستقبل بين الشيوعيين «اليساريين» مناهضي البرلمانية وبين الشيوعيين بوجه عام، أود أن أذكر الملاحظات الإضافية التالية. لقد استبان لي من مطالعتي في صحف الشيوعيين «اليساريين» والشيوعيين بوجه عام في ألمانيا، أن الأولين يتميزون بأنهم يستطيعون التحريض بين الجماهير بشكل أفضل من الآخرين. ونظير هذا قد لاحظته مرارا في تاريخ الحزب البلشفي ولكن بمقاييس أصغر وفي منظمات محلية منفردة، لا في النطاق العام للدولة. ففي سنتي ١٩٠٧-١٩٠٨مثلا، كان البلاشفة «اليساريون» أحيانا وفي بعض الأماكن يحرزون نجاحا أكبر من نجاحنا في التحريض بين الجماهير. وسبب ذلك لحد ما، هو أن التقرب إلى الجماهير بتكتيك «مجرد» النفي يكون أسهل في اللحظة الثورية، أو عندما تكون ذكريات الثورة حية في الخواطر. ولكن هذا ليس بدليل بعد على صحة هذا التكتيك. وعلى كل حال، لا مجال لأدنى شك في أن الحزب الشيوعي الذي يريد، عمليا، أن يكون الطليعة والرعيل الأمامي للطبقة الثورية، أي البروليتاريا، والذي يريد، عدا ذلك، أن يتعلم قيادة الجماهير الكادحة والمستثمرة غير البروليتارية فضلاً عن قيادة الجماهير الواسعة البروليتارية، يجب عليه أن يعرف كيف قوم بأعمال الدعاية والتنظيم والتحريض بأسهل الأشكال منالاً، بشكل مفهوم للغاية، وواضح كل الوضوح ونابض بالحياة، بشكل يتقبله «الشارع» المصنعي في المدن وتتقبله القرى على حد سواء.

[٢] ونذكر عرضا أن هذا الأمر قد شرح، بوضوح وإيجاز بالغين ودقة متناهية، وبصورة ماركسية، في جريدة الحزب الشيوعي النمساوي الرائعة، «الراية الحمراء»، في عدديها المؤرخين ٢٨ و ٣٠ مارس سنة ١٩٢٠: («Die Rote Fahne» Wien, 1920, 266—u. 267 ;LL. «Ein neuer Abschnitt der deutschschen Revolution») (-ل.ل. «المرحلة الجديدة للثورة الألمانية». الناشر).




كتب: أبريل-مايو ١٩٢٠
نشر لأول مرة: (في شكل منشور) في يونيو ١٩٢٠
التحويل الرقمي: جريدة المناضل-ة (مايو ٢٠٠٥)


Source: Marxists Internet Archive
lenin.public-archive.net #L2746ar.html