Status             Fa   Ar   Tu   Ku   En   De   Sv   It   Fr   Sp  

حول أزمة الشرق الاوسط

حوار جريدة كومونيست مع منصور حكمت


كومونيست: ما هو تفسير المكتب السياسي للأزمة الراهنة في الشرق الأوسط، وماهي مسبباتها وخلفياتها؟

منصور حكمت: في البدء، ينبغي تعريف الازمة نفسها وتحديدها. من المفترض حول مسببات وخلفية اية حقيقة نتحدث؟ تعطي الصحافة الغربية وحكوماتها المنهمكة في هذا الحدث، على الاقل في دعاياتها العامة، تصوراً محدوداً ومخادعاً عن هذه الآزمة. ظاهرياً، ان الأزمة حول احتلال الكويت من قبل العراق وعواقبه الوخيمة من حيث تزويد الغرب بالنفط او مصير الأجانب في المنطقة. بالطبع، تعكس تفسيراتهم الأكثر تخصصية ايضا ابعاد اعظم لهذه الأزمة ومخاطر هذا الحدث الذي يهدد العالم برمته. إن إحتلال الكويت من قبل العراق لا يشذ عن القاعدة العامة لعلاقات الدول الرأسمالية المعاصرة. انها ليست المرة ألأولى التي يغزو فيها بلد ما لآخر ويحتله تعقباً لمصالحه الإقتصادية والسياسية والإستراتيجية.

في هذه الحالة المحددة، فإن المصالح الإقتصادية والسياسية للحكومة العراقية في هذه الخطوة واضحة تماماً. بالطبع، يمكن ان يطرح البحث هكذا، لماذا حدثت هذه الخطوة في هذه المرحلة المعينة. إن هذا ما اعود اليه فيما بعد. ولكن على اية حال، ان ما ينبغي ان يكون واضحا هو ان محور الأزمة الراهنة في الشرق الأوسط ليس في خرق سيادة الكويت ولا تقليص تزويد الغرب بالنفط ولا اوضاع الأجانب. ان احتلال الكويت لهو بمثابة شرارة صغيرة لإحداث انفجار هائل على الصعيد العالمي، وعملت بوصفها قناة لحل معضلات اكثر اساسية وبنيوية. ان ابداء الرأي حول أزمة الشرق الأوسط والموقف منها يعني الرجوع الى هذه المسائل المحورية والمسار المقبل لهذه الأوضاع.

يجب تقييم هذا الحدث في خضم عالم ما بعد الحرب الباردة، وفي خضم أوضاع ما بعد زوال الكتلة الشرقية. ان ما جعل احتلال الكويت والأوضاع اللاحقة في الشرق الأوسط على السواء امراً ممكناً هو وجود هذه الأوضاع. والى ان جرت تطورات الكتلة السوفيتية، اتخذت الجغرافيا الإقتصادية والسياسية للعالم، وتحت تأثير إصطفاف الكتلتين الغربية والشرقية او ما اطلق عليه (مجابهة القوتين العظميتين) شكلا ثابتاً، الى حد ما. تحت تأثير هذه المجابهة العالمية لم يتم تعريف التقسيمات السياسية والقطرية للعالم الرأسمالي فحسب، بل مجمل البنية الفوقية الفكرية والملامح الآيديولوجية للعالم. ينبغي اليوم إعادة تعريف مجمل هذه المعادلات من جديد. ان اسئلة مطروحة ولم تجد جوابا لها، وكل إمرء ودولة وقوة تأخذ من ناحيتها دورا على عاتقها في صياغة المعالم المقبلة للعالم.

ان العالم العربي جزء من العالم عموماً، وان ما يحدث فيه اليوم لا يبعث، بأي شكل من الأشكال، على الإستغراب أكثر من أحداث الإتحاد السوفيتي واوروبا الشرقية والغربية. ان العلاقات والمعادلات السابقة يعاد بها النظر من جميع الأوجه. بنفس القدر الذي تبدو فيه جغرافيا أوروبا قبل سنتين قديمة، وبنفس القدر الذي غدا فيه تجابه، وحتى نفس وجود حلفي الناتو ووارشو بشكلهما السابق، عديم الصلة بالواقع، وضع التوازن السياسي والتقسيمات الإدارية والسياسية السائدة حتى الآن في العالم العربي والشرق الأوسط تحت طائلة السؤال ايضاً. اي بعبارة اخرى، يمكن القول، مع ولوج العالم مرحلة ما بعد الحرب الباردة، لم تطرح اسئلة جديدة فحسب، بل ان المسائل القديمة كذلك تجد لها قوالب جديدة لطرح نفسها مجدداً وترفع رأسها بأشكال جديدة.

ما ان ننظر الى طرفي المجابهة في الشرق الأوسط يلفت انتباهنا فوراً ان المسائل التي يستهدف حلها في هذا الصراع تتخطى كثيرا قضية إحتلال الكويت. بالنسبة لامريكا، يعد هذا التصادم في الشرق الأوسط قناة لصياغة بنية سياسية مقبلة للعالم الرأسمالي بإتجاه حفظ مكانة أمريكا بوصفها قوة عظمى. مع انتهاء الحرب الباردة، ومع التطورات التي جرت في أوربا ومع زوال الكتلة الشرقية، ضعفت مكانة امريكا قبالة أوروبا وعلى الصعيد العالمي.

إن وحدة كلا الالمانيتين، وكلاهما في صلب اوربا موحدة ومقتدرة من الناحية الاقتصادية انزلت بكثير من مكانة امريكا في ميدان السياسة الدولية لتتخذ دوراً من المرتبة الثانية. انها حقيقة تتناسب ايضا مع الافول الإقتصادي لأمريكا. وتم تحويل الناتو عملياً الى ظاهرة لاتمت بأدنى صلة بالواقع. مع هذه الأزمة الأخيرة، حوفظ على حلف امريكا بوصفها قوة عظمى، وتم توفير الأجواء والإمكانيات لإبراز وجود أمريكا بوصفها قوة عسكرية تكون اوربا وسائر البلدان الصناعية المتقدمة بحاجة اليها. وحتى قبل الواقعة الأخيرة، اشار المفسرون الغربيون، وهم يبحثون عن حكمة لإدامة حلف الناتو والدور المهيمن لأمريكا، الى المعضلات والتناقضات الموجودة في البلدان المتخلفة، وبالأخص الشرق الوسط. ومع إحتلال الكويت، فإن مستقبل أمريكا، بوصفها قوة عظمى، يمكن إخراجه من الغموض، حيث إحتاج الغرب فوراً أمريكا وقيادة أمريكا مرة أخرى. وعليه، بغض النظر عما كانت عليه أبعاد نفس مسألة الكويت، كانت أمريكا بأمس الحاجة الى تحويلها الى أزمة دولية، وبذلت قصارى جهدها وبمساعدة بريطانيا في دفع الأمور بهذا الإتجاه. حيث حشدت قوى هائلة في المنطقة في البدء بحجة الدفاع عن السعودية، وبعدها تحدثت رسميا عن هجمة عسكرية وحتى حرب نووية تكتيكية في المنطقة. إن ابعاد نفس الواقعة لا يبرر قط هذا الضجيج وهذه العسكرتاريا. بيد أن الأفق الذي تتعقبه أمريكا يتجاوز إعادة أوضاع الكويت والشرق الوسط الى أوضاع ما قبل الإحتلال. وتتمثل المسألة الأصلية بالبقاء كلاعب أصلي بوصفها قوة عظمى في عالم يتغير بسرعة.

من جهة أخرى، يعد حدث إحتلال الكويت منفذاً لطرح تناقضات أكثر اساسية. واتاحت هذه الأوضاع الفرصة لأن تظهر بأكثر الأشكال حدة وسفوراً مجمل التناقضات والصراعات القائمة في الشرق الوسط والتي تم لجمها قبل ذلك إرتباطاً بتوازن قوى معلوم عالمياً وظهرت بأشكال أقل حدة. إن نفس هذه الصراعات قابلة للتفسير تماماً. على أية حال، ينبغي على المسألة الفلسطينية أن تطرح نفسها بشكل جديد. حيث يعتبر إحتلال فلسطين والظلم الذي يمارس على جماهير فلسطين جرح قديم في جسد العالم العربي. ثانياً، إلجغرافية المصطنعة التي فرضتها الدول الإستعمارية على الجماهير. إذ إن نفس هذه الجماهير تعتبر نفسها أمة واحدة تم تقسيمها. إن تصور مئات الملايين من الناس ستتحمل، للأبد، وجود الفقر والحرمان من جهة وثروات إسطورية بيد حفنة بلدان مصطنعة ومشايخ أوجدها الإستعمار البريطاني حين ترك المنطقة وذلك برسم خطوط على خارطة المنطقة لهو تصور ساذج. إن هذه التقسيمات وهذه الهوة الإقتصادية الملموسة مصدر مهم لسخط وإستياء الجماهير العريضة وأساس نفوذ النزعة القومية العربية.

ثالثا، مع انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية تضاف عدة عوامل الى اللوحة، إذ لم يقوي إخفاق إيران والتيار الإسلامي في الحرب من مكانة القومية العربية حسب، بل عزز ذلك من مكانة العراق في مجمل العالم العربي بوصفه بلداً أحبط هذا التهديد. وقد تقدم العراق بوصفه قوة عسكرية وسياسية داخل جامعة الدول العربية. ومما سبق، مع إنتهاء الحرب، طرحت مسالة إعادة الإعمار الإقتصادي لإيران والعراق. بالنسبة للعراق، فإن مسالة أسعار النفط والأراضي الغنية بالنفط أو السواحل المناسبة لتصدير النفط وديونه الى المشايخ الغنية ومساهمتهم في إعادة إعمار العراق إقتصادياً وغيرها تعد مسألة حيوية. زد على ذلك، حقيقة ان الكويت قد تم تحويلها الى بلد مستقل بصورة مصطنعة واستعمارية تماماً، وإن العراق طالب دوما بضمها. لقد أعطت الأوضاع المتغيرة عالمياً للعراق إنتهاز فرصة إحتلال الكويت. لكن مع هذه الحدث، وإصطفاف أمريكا وحلفائها وإتخاذ هيئة عسكرتاريا سافرة، عُبِأَ قسم واسع من العالم العربي، وتم دفع الصراعات والتناقضات في المنطقة الى صلب الميدان.

ان جملة هذه التضادات والصراعات في خضم عالم مابعد الحرب الباردة المليء بالمتغيرات خلقت الأزمة الراهنة. إن نقطة بدء هذا المسار هو إحتلال العراق للكويت. بيد ان هذه فقط نقطة بدء. ولكن ماخلق أزمة بهذا الحجم هو أن الحدث، عملياً، قد تم تحويله الى قناة لحل وتحديد مصير التناقضات والصراعات وتجابه المصالح المادية التي لها أبعاد عالمية وتأريخية. ويتمثل أهمها بسعي أمريكا لتعريف مكانتها ودورها بوصفها قوة عظمى في الاوضاع الجديدة للعالم. إن علاقة أمريكا وأوربا ومكانة أمريكا في عالم جديد هما، قبل أي شيء آخر، ما يتم حلهما في خضَم هذه الأوضاع.

كومونيست: ما هو الموقف العملي للمكتب السياسي بخصوص هذه الأزمة وقضاياها الأساسية مثل إحتلال الكويت والحصار الإقتصادي على العراق وحشد قوى أمريكا وحلفائها في المنطقة وتحكم قواهم العسكرية بعبور السفن في الخليج وإمكانية إندلاع الحرب وأوضاع الأجانب والمشردين وغيرها؟

منصور حكمت: بدءاً، علي أن اطرح نقطة عامة بهذا الخصوص، وبعدها أتطرق الى كل من المسائل المذكورة. بالنسبة لنا بوصفنا حزباً شيوعياً واممياً، بوصفنا جزء من حركة الطبقة العاملة التي هي ذات أهداف إجتماعية وسياسية معروفة، لا يتمتع الدعم السياسي والإجتماعي لهذا الطرف أو ذاك، حقوقياً، هذه الكتلة من الدول المنهمكة في المجابهة أو تلك، بأية موضوعية أو صلة. إن أفقنا وبديلنا للمجتمعات لا يتناغم مع الوضع السابق في المنطقة، ولا يتم تمثيله من قبل طرفي المواجهة. إنه ليس، ولم يكن، من تقليدنا أن نعتبر أية مجابهة إجتماعية على أنها مجابهة التقدمية والرجعية. ولكن هذا لايعني إننا نتخذ موقف اللامبالاة قبالة المعضلات التي تطرح بهذا الخصوص. ذلك إن حياة ومستقبل الجماهير الكادحة العريضة تتأثر بها. إن العالم المعاصر يحدد قالبه لمرحلة ما عبر هذا السبيل، وإن هذا يتمتع بأهمية بالنسبة لنا. نظرا لذلك، لنعود الى الأمور التي أشرت اليها في سؤالك.

١- تمضي أمريكا تعقباً لمصالح امبريالية خاصة نحو فرض حرب دموية على جماهير المنطقة وبالأخص على جماهير العراق. جماهير تنفض لتوها غبار المصاعب والحرمان الناجمة عن ثمان سنوات من الحرب. ليس للتهديدات والمساعي الحربية لأمريكا ادنى صلة بإحتلال الكويت. إن هذا ما يقوله صراحة المحللون السياسيون لنفس البرجوازية الأمريكية. لا دولة شيخ الكويت، ولا إستقلال الكويت، ولا النفط جزء من المبررات الجدية لدق طبول الحرب. إنهم أنفسهم يقولون إن مكانة أمريكا في إقتصاد وسياسة العالم المعاصر بوصفها قوة عظمى قد ضعفت، وبالأخص مع توحيد المانيا وإنتهاء الحرب الباردة، تلك المصلحة التي ينبغي بسببها دفع الشباب الأمريكي الى الحرب لا لإيقاف تدفق النفط والذي ليس امرا متوقعاً ولايمكن ان يحدث، أو إستقلال الكويت. وبوضوح الشمس يقولون لو ان أمريكا تظهر نفسها كقوة عسكرية، فإن بمقدورها أن تبقى بوصفها شرطي عالم ما بعد الحرب الباردة، أو ما يسمى بقائد هذا العالم. بالنسبة لأمريكا، تعد هذه فرصة ذهبية لتعزيز مكانتها المتضعضعة قبالة أقطاب أخرى من العالم الرأسمالي. ندين وبشدة هذه النزعة الداعية للحرب والمساعي السافرة للمسك بخناق الآخرين. برأينا، وبغض النظر عما كانت عليه نقطة البدء، فإنها اليوم مصلحة وفقط مصلحة أمريكا هذه تبغي دفع العالم صوب كابوس تراجيديا إنسانية أخرى بأبعاد حتى أوسع مما فرضته أمريكا حتى الآن على العالم.

٢- على هذا الأساس، ندين جلب القوى للمنطقة والتحكم بمرور السفن في الخليج والبحر الأحمر بوصفها أكثر أشكال الإستعراض الإمبريالي للعضلات سفوراً. إنهم يجلبون قواتهم أولاً، ثم يأخذون الإذن من أممهم المتحدة بعد لي ذراع هذا وذاك. برأينا، إن العالم لايحتاج الى شرطي، ويجب الوقوف بوجه ذلك.

٣- فيما يخص الحصار الإقتصادي، يمكن إفتراض إن كل بلد أو كتلة بلدان لها الحق في الإستفادة من الضغط التجاري بوصفه أداة في العلاقات الدولية. ولكن فيما يتعلق بهذه الحالة المحددة، فإن رائحة نفاذه للقسر الإنساني تزكم الأنوف. إن إحتلال غرينادا، زرع الألغام في سواحل نيكاراغوا وإحتلال بنما وأكثرها ملموسية إحتلال الأراضي الفلسطينية من قبل إسرائيل لم تؤدي حتى الآن الى فرض أي نوع من أنواع الحظر. ان الحركة المناهضة للتمييز العنصري في جنوب أفريقيا تَجِدْ هنا وهناك يومياً لترى هذا وذاك من أجل إدامة الحصار الإقتصادي، لكننا لم نشهد حتى بارجة حربية واحدة على سواحل جنوب أفريقيا. ويعتبر جعل غذاء ودواء ملايين الناس رهينة أيضاً، رغم إنه يعد امراً محرماً طبقا لقرارات الأمم المتحدة، خطوة معادية للإنسانية تماماً. على أية حال، لو نعتبر نفس الإمتناع عن التجارة مع العراق جزء من حقوق البلدان الأخرى، فإن المسك بخناق الآخرين عسكرياً تحت يافطة التنفيذ العملي لهذه السياسة مدان بالطبع، وينبغي ان يتوقف.

٤- فيما يتعلق بالأجانب، نعارض بداهة أي من أشكال سلب حرية السفر وإقامة الأفراد وأهمها الحق المسلم لهم بالإبتعاد عن مخاطر الحرب. نحن أيضا دعاة نجاة الأجانب. لكن مرة أخرى هنا أيضاً، أقام العالم الغربي معرضاً للرياء. برأينا أولاً، إن النزعة الحربية السافرة لأوربا وأمريكا والتجاهل سلفاً لسبل الحل الدبلوماسية والسياسية لهما دور مهم مهم في تورط الأجانب في الكويت والعراق. إن بلدانا أرسلت سفنا وجنوداً لو كانت تشترك بنصف متر مع العراق بحدود، أو هناك ذرة إحتمال تراه في أن تتكبد خسائر غير عسكرية جراء هذه السياسة لما كانت دخلت المعركة. ماذا تعمل كندا وإيطاليا وأستراليا وغيرهم هناك؟

ثانيا، في الوقت الذي تم حبس مئات الآلاف من جانب الأمم الأخرى في أسواْ الظروف، رغم أنهم يتمتعون بترخيص المرور، لكن ليست هناك إمكانية عملية تساعدهم على العودة الى بلدانهم، فإن تمركز الأنظار على عدد أقل بكثير من الأمريكان والأوربيين سيكون تعصبا شديدا ونظرة أحادبة الجانب وأوربية المركز. حين تطلق الحكومات والصحافة الغربية على مواطنيهما "درع بشري"، فإنهما يقرّان بكون ملايين الناس لا يعدون بشراً. ومن وجهة نظرهما، يحل قتلهم. لو أن الحرب خطرة ومهلكة، فإن ذلك يصح على الجميع. لا يمكن الحديث عن إمكانية الهجوم بالأسلحة النووية، ويلتسع قلب المرء أيضا على مواطني بلده المتواجدين هناك. زد على ذلك، ماذا يفعل الناس الذين يعيشون هناك ويعملون هناك، ويذهبون الى المدارس؟ لو أن إمرءاً يلتسع قلبه لحياة وأمن الناس الأبرياء، ومن ضمنهم مواطني بلده، عليه أن يفكر بما تجلبه الحرب من شؤم لتهدد معها حياة ملايين البشر.

في مرحلة ما، أعلنت الحكومة العراقية إنه في حال إعلان أمريكا وحليفاتها نفيهم لإمكانية شن الهجوم، فإنها ستسمح لمواطنيهم بالخروج. ربما بمقدور نفس ذلك أن يكون أساسا لحل مسألة الأجانب. تتمثل المسألة في أنهم عقدوا العزم على الحرب. لو أن مسؤولية سلامة وأمن الأجانب في العراق تقع على كاهل الأخير، فإن مسؤولية حياة ملايين الناس القاطنين في بلدان ستكون ساحة للحرب تقع على كاهل أمريكا والغرب. وأخيراً، لو أن القلق على المواطنين الأوربيين يستمد من نزعة إنسانية ودفاع عن الحقوق الأساسية للإنسان في تغيير محل سكنه وإقامته، عندها ينبغي توجيه السؤال الى الدول الغربية ذاتها: لماذا تغلقون حدودكم بوجه مهاجرين يفرون من الفقر والحرب في بلدان غير أوربية؟!! إن ما توضح في هذه الأزمة لم يكن في إن السياسة البرجوازية لا تعرف الإنسانية فحسب، بل إنه خلال الصراع بين البلدان والمصالح القومية في عالم اليوم، فإن البشرية العزلاء هم الضحية الأولى. إن الجميع يعلم ذلك. لقد كان الأمر الجلي هو مدى كون الآيديولوجيا والأخلاقيات الرسمية في المجتمع البرجوازي، حتى هناك حيث ينام الناس يوميا على تنويمة الديمقراطية، مرائية. ومدى كون وسائل الإعلام في أوروبا وأمريكا الديمقراطيتين تتمة للسياسة الخارجية.

٥- لانؤيد إحتلال الكويت، لأننا بوصفنا حزب شيوعي ننشد الممارسة الحرة والمباشرة للجماهير العمالية والكادحة ذاتها في تحديد مصيرها لا الحكومات ولا الجيوش. بيد أن إدانة إحتلال الكويت من قبلنا ليس موقفاً صائباً. أولاً، ينبغي أن يتضح ما هو الأساس السياسي والمبدئي لإدانة هذه الخطوة؟ هل هو إنتهاك الحقوق الدولية؟ لسنا مدافعين عن هذه الحقوق، ولم نوقع عليها. بل نجد أنفسنا في تناقض معها بعض الاحيان، إن الحقوق الدولية القائمة قد تم وضعها اساساً من أجل تنظيم العلاقات بين الدول الرأسمالية ولايستلزم الإلتزام بها أو خرقها تمجيداً أو سخطاً من قبلنا. هل هو إنتهاك حق سيادة الكويت؟ مثلما ذكرت إن تحول الكويت الى دولة، وإستقلال الكويت ووحدة أراضيها لاتتمتع بقدسية لدينا. إن فصل عدد من آبار النفط وتعيين شيخ لحراستها ليس أساساً لحق سيادة الكويت. برأينا، إن الكثير من حدود البلدان في العالم العربي مصطنعة وميراث الإستعمار. إنها الجماهير القاطنة على أراضٍ عربية، يعني أولئك الذين يعيشون ويعملون هناك، هم الذين عليهم تحديد الجغرافيا السياسية لهذه المنطقة عبر إرادتهم الحرة. إن الجغرافيا السياسية لمجمل العالم في حالة تغير. يجب أن لا تكيل بمكيالين تجاه أوروبا والشرق الأوسط. يمكن أن يقال في هذه الحالة المحددة إن الوضع القائم قد تغير عبر الإحتلال العسكري ومن فوق. برأينا يمكن أن يكون هذا سبب لعدم التأييد لا الإدانة. وأخيرا فإن إدانة إحتلال الكويت، في هذه الحالة، يكون لها موضوعية بالنسبة لنا لو أن نظاماً إجتماعياً أكثر تقدماً وحرية قد تم قلبه من قبل نظام أكثر تخلفاً. إن هذه الحالة لا تصح هنا أيضاً. إن الكويت، قبل أن تكون بلداً، كانت مخيم عمل للعمال المهاجرين الذين يعملون للشركات الغربية وشركائها المحليين دون أن يتمتعوا بأدنى حقوق مدنية في ظل نظام سياسي عشائري. وعليه، من وجهة نظر التغيير في العلاقات الإجتماعية أيضاً، تفتقد إدانة هذه الواقعة الى أدنى صلة بالواقع. من المثير للأهتمام إن بعض دعايات الغرب، في البدء، قبالة هذه المسألة، كانت لا تزال تحت تأثير أجواء مرحلة الضغط على الكتلة الشرقية وسُعي الى تصوير الإصطفاف في الشرق الأوسط عبر التركيز على النظام السياسي القائم في العراق على أنه مجابهة الديمقراطية والديكتاتورية. لكن، وبسرعة كبيرة، أُثير السؤال: مهما تكن عليه طبيعة النظام السياسي في العراق، ليس بوسع الدفاع عن حكومات الكويت والسعودية أن يعد دفاعاً عن الديمقراطية. وعليه، لامناص للدعاية الرسمية من الألتفاف اكثر الى مسألة النفط ومصير المواطنين الغربيين. من وجهة نظرنا أيضاً، إن هذه ليست مجابهة أنظمة إجتماعية، وإن طرح المسألة على هذا المنوال لهي عملية مخادعة. على أية حال، إن إدانة خطوة في السياسة الدولية وفي عالم الدبلوماسية يعني الدعوة الى إعادة الأوضاع السابقة والتخندق بجوار قوى أصلية إصطفت قبالة هذه الخطوة و الإصطفاف معهم سواء في مجلس الأمن أو في ميدان الحصار الإقتصادي أو الدعايات الغربية وغيرها. نحن لا ننتمي لهذا الصف، ولا نصدح بالغناء معهم. ثانيا، وإن هذه مسألة مهمة جداً، ان المعضلة الأصلية اليوم، يعني تلك الواقعة التي على كل إمرء أن يتخذ موقف تجاهها، هي ليست إحتلال الكويت. لم يتزلزل العالم من أجل مسالة وحدة أراضي الكويت ولم تتجسم هذه الإصطفافات إستنادا الى هذا الأساس. تتمثل المسألة الأصلية بالأفق الماثل أمام أمريكا لإعادة نوع من هيمنتها الدولية، وهي مستعدة، بناء على ذلك، أن تنحر مئات الآلاف من البشر في حرب ستدمر عدة أجيال. إن التغطية على هذه الحقيقة والتباكي على مسألة إحتلال مشيخة إصطناعية ونظام سياسي عشائري، في الواقع، يعني طأطأة الرأس لهذا الأفق الإمبريالي والتحول الى لعبة في الحرب الدعائية لأمريكا. متى ما تلملم أمريكا قواتها وتولّي عندها يمكن إبداء الرأي وبصورة مبدئية فيما يتعلق بمصير الكويت.

كومونيست: الى أي حد يمكن إعتبار إمتناع المكتب السياسي عن إدانة إحتلال الكويت متأتيا تحت تأثير المحدوديات والمحاذير التي تخلقها وجود معسكراتنا وإمكاناتنا في العراق؟

منصور حكمت: في هذه الحالة المحددة، ولا أي منها قطعاً. ثمة حالات حدثت وستحدث، نظرا لتمتعنا بإمكانات فنية ومعسكرات في الأراضي العراقية عدلّنا تعبيرنا أو تحفظنا إجمالاً عن إبداء الرأي في مسائل معينة. لقد أعلنّا ذلك من قبل أيضاً، ولا نرى فيها مثلبة أو مأخذاً، ولم ندوس أيضاً على أي من مبادئناالى اليوم. إننا، ومن أجل ترسيخ جبهات أساسية لنضالنا، كنا مستعدين، في ميادين تعتبر ثانوية وفرعية من وجهة النظر الفعالية المشخصة للحزب الشيوعي الإيراني، على التغاضي عن الحرية المطلقة في أعمالنا. ولكن حتى اليوم لم نغير أي من مواقفنا إستناداً الى هذه المحدوديات. إننا لا نعتبر إدانة إحتلال الكويت، طبقاً للأسباب التي ذكرتها، أمرا صائباً. مثلما لو أن مصر إحتلت السعودية يوماً ما، وأسقطت حكومتها. لا نتمتع بأية إمكانيات على أرض مصر أيضاً. لا يراودنا اي سرور لوجود نظام عشائري ونظام القصاص الإسلامي وإضطهاد المرأة وسلب حقوق الجماهير ورضوخهم الى الشيوخ المليارديرية في هذه البلدان. إذا ثمة إمرء اليوم يدوس على المبادئ والقيم الإنسانية ويتخذ موقفاً إستناداً الى مصالحه المادية، فإنه ذلك الذي يتشدق في أوروبا بالديمقراطية، بيد أنه على إستعداد من أجل إرباح الرأسمال أن يقتل ملايين الناس من الأمم المختلفة في الشرق الأوسط، وأن تسود حكومة جابر بن فلان على حياة الكثيرين. أي يعني مجمل وسائل الإعلام المحترمة لأوروبا الغربية وأمريكا والساسة المنافقين والمرائين البرجوازيين.

كومونيست: ما هي برأيك الطريقة المنشودة لحل هذه الأزمة؟

منصور حكمت: يجب التمييز بين الطريقة المنشودة والطريقة الممكنة بهذا الصدد. يمكن رؤية أسلوبنا المنشود لحل مصائب الجماهير الكادحة وخلاصها من الفقر والحرب على الصعيد العالمي في كل سطر من برنامجنا ودعايتنا، اي الإشتراكية وإنهاء النظام الطبقي. إنه سبيل حلّنا الذي يشكل حكمة مجمل فعاليتنا. للأسف، ليست الإشتراكية العمالية اليوم من الإستعداد والقوة لتحديد المصير الأساسي للمجتمعات في هذا الشكل من التصادمات السياسية. في هذه الأزمة المعينة، هذه القوة ليست من اللاعبين الأصليين في الساحة قط. يجب تغيير هذا الأمر. إنه شأننا. أما بالنسبة للجماهير التي يُلعب بحياتها ووجودها، هنا ثمة مسار منشود واحد فقط. يجب، بأي ثمن، الحيلولة دون وقوع الحرب التي على وشك الإندلاع. ينبغي أن تُجبَرْ أمريكا و حليفاتها على التخلّي عن تنفيذ عمليات القتل هذه. ليس بوسع أي من المسائل المطروحة في هذه الأزمة: إحتلال الكويت، الأجانب، النفط، السفارات وغيرها أن تكون تبريراً لهذه الفاجعة. أعتقد من الناحية العملية، ينبغي أن يحال تحديد مصير الكويت الى نفس العالم العربي. ينبغي البحث عن أسلوب حل دبلوماسي وسياسي للأزمة.

كومونيست: ما هي برأيك إحتمالات إندلاع الحرب، وماذا ستكون عواقبها؟

منصور حكمت: برأيي أن إحتمال إندلاع الحرب، أي بدء شنها من قبل أمريكا، كبيرة جداً. أمريكا مضت نحو مقامرة كبيرة. إن نتائج الإنتصار في مثل هذه الحرب مغرية بالنسبة لها. لكن في الوقت نفسه، فإنه بوسع نفس الحرب، وعلى المدى البعيد، أن تجرّ عليها ضرراً بدرجات أكبر، وتؤدي الى الإنزواء المتعاظم لأمريكا وبالأخص إضعاف نفوذها في أوروبا. ويتمثل أملها، عبر الهجمات الجوية المكثفة والخاطفة بسلب، إمكانية العراق على المقاومة وعلى الأقل التموضع في الكويت. وقد حسبوا خسائرهم وخسائر الطرف المقابل سواء العسكرية أو غير العسكرية أيضاً. لكن حتى لو حالفهم الحظ، فلن يكون هذا آخر المطاف. سيحصل توازن جديد قصير الأمد، وسيكون فاتحة صراع دموي لعدة عقود في مجمل الشرق الأوسط ذا عواقب عالمية حاسمة. حتى بوسع إندلاع مثل هذه الحرب في الشرق الأوسط أن تترك تأثيرا جدياً على المسارات الجارية في أوروبا وعلى الأوضاع السياسية للأتحاد السوفييتي.

على أية حال، ماذا تكون عليها الحرب أو لاتكون، بدء هذا الحدث من الآن مسار تغييرات جوهرية في المنطقة. على سبيل المثال، تعتبر حكومة السعودية والمشايخ الأخرى في الوقت الراهن زائلة. لن تبقى البنى الحكومية في البلدان العربية على حالها اليوم. ولجت المسألة الفلسطينية مرحلة جديدة تماماً. وتداعى التوازن الآيديولوجي والسياسي في الشرق الأوسط. على المدى المتوسط، يتم مرة آخرى دفع النزعة القومية والإسلام بدرجة أقل بوصفهما أحد جذور العروبة. إن النضال الطبقي المباشر تغلفه مرة أخرى صراعات قومية وقطرية ودينية وغيرها. إن هذا تراجع جدي من وجهة نظر تطور الصراع الطبقي في الشرق الأوسط، بوسعه أن يجرً أجيال من الطبقة العاملة في هذه المنطقة خلف آيديولوجيات وحركات غير عمالية ومتخلفة، ويضع عراقيل جدية أمام النضال الإشتراكي للعمال.

وأخيراً يجب عدم نسيان لو أن أمريكا نجحت في سياستها العسكرتارية الراهنة، وثبتت مكانتها بوصفها شرطي عالم ما بعد الحرب الباردة، فإنها ستكون مقدمة وأرضية للقمع الدموي لأية حركة عمالية وجماهيرية في أية بقعة من بقاع العالم قد تعرّض مصالح أمريكا للخطر.


٭ ٭ ٭


٭ تمت الترجمة عن كتاب (أزمة الخليج وأحداث كردستان العراق) وثائق وأبحاث الإختلافات الداخلية بين أجنحة الحزب الشيوعي الإيراني. صدر الكتاب في كانون الأول ١٩٩٣
٭ نشرت هذه المقابلة لأول مرة في جريدة (كومونيست) لسان حال الحزب الشيوعي الإيراني في عددها (٥٩) الصادر في أيلول ١٩٩٠.
٭ لم ننشر السؤال الأخير المتعلق بموقف إيران من الأزمة، لأنه يقتصر على أوضاع الأجنحة المختلفة داخل نظام الجمهورية الإسلامية. (المترجم)


ترجمة : فارس محمود
hekmat.public-archive.net #2230ar.html